رمضان شهر الإنفاق
النفقة – عمومًا- من أسباب القرب إلى الله تعالى ودخول الجنة، وهي لا تُنْقِص مال المنفق، بل تزيده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه-: "ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه "(1).
وإنها لفرصة ثمينة أن ينال العبد الأجر العظيم، بصدقة لا تنقص ماله، بل تزيده.
— وفي شأن الصدقة والإنفاق وردت أحاديث صحيحة كثيرة، يتبين بها أنها من أعظم أبواب دخول الجنة، وإليك شيئًا منها:
عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ثلاثة أُقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر- أو كلمة نحوها-. وأحدثكم حديثًا فاحفظوه، قال: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا؛ فهذا بأفضل المنازل.
وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته؛ فأجرهما سواء. وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا؛ فهذا بأخبث المنازل.وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته؛ فوِزْرهما سواء"(2).
وفي ذلك دلالة على أن نية المؤمن الصادقة أن ينفق في سبيل الله، أو يعمل أي عمل من الصالحات؛ تبلغه منازل العاملين، ولكن بشرط أن تكون نية صادقة، لا أمنية كاذبة، كما هو حال بعض الأشقياء الذين يتمنون أن يرزقهم الله، ولو رزقهم لكفروا:( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَاتنَا مِنْ فَضْلِهِِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِيَن ، فَلَمَّا ءَاتَاهُم مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَهُمْ مُعْرَضُونَ ، فَأعْقَبَهُمْ نِفَاقاً في قُلُوِبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ) [التوبة: 75-77].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتًا في سحابة: اسق حديقة فلان. فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة(3)، فإذا شرجة(4) من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله. فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته(5) فقال له: يا عبدالله، ما اسمك؟ قال: فلان. للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان -لاسمك-، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأردّ فيها ثلثه"(6).
هكذا بارك الله لهذا الرجل، ووسع عليه رزقه، وكفاه مؤونة زرعه، حتى وكل ملكًا بالسحابة يقول لها: اسقي حديقة فلان.. اسقي حديقة فلان. يخصها دون غيرها.
وفي الحديث المتفق عليه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. فاتقوا النار ولو بشق تمرة"(7).
وفي الحديث الآخر المتفق عليه -أيضًا- أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في أضحى أو فطر إلى المصلى، ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: "أيها الناس تصدقوا" . فمر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار"(8).
فبين صلى الله عليه وسلم أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من النار، ولو كانت باليسير.
والصدقة دليل على صدق إيمان العبد؛ ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم -في حديث الحارث الأشعري الذي رواه مسلم-: "والصدقة برهان "(9)؛ لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تغلب العبد على نفسه وأنفق المال في سبيل الله؛ كان ذلك برهانًا على أنه يقدم مرضاة الله ومحبوباته على محبوبات نفسه. (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9، والتغابن:160].
والأحاديث الواردة في الصدقة كثيرة جدًا.
لكن ثمة أمرًا ينبغي أن يحرص المتصدق عليه، وهو أن تكون صدقته سرًّا بقدر الإمكان، فقد جاء في الحديث الذي رواه الطبراني بسند حسن -كما يقول الدمياطي في (المتجر الرابح)- عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر"(10).
وإن من الخطأ أن يتصدق الرجل بمئة ألف ريال أو خمس مئة ألف ريال، أو مليون ريال؛ من أجل أن يكتب اسمه في الجريدة، أو يكتب في دفتر التبرعات، أو يذكر عنه أنه المحسن الكبير فلان.
اللهم إلا أن يكون قصده من ذلك حث الناس، وتشجيعهم على الصدقة والبذل؛ فإن هذا مقصد حسن . أما الذي يقصد الرياء والسمعة فصدقته خسارة في الدنيا، ووبال في الآخرة -والعياذ بالله-.
إذن، فالحاصل أن فضل الصدقة عظيم، وثوابها عند الله جزيل، فينبغي للمؤمن أن يحرص على الإكثار منها دائمًا، وفي رمضان خاصةً ينبغي أن يضاعف العبد إنفاقه في وجوه الخير؛ اقتداءً بنبي الهدى صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
- وإنما كان جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان خاصة مضاعفًا؛ لأسباب ثلاثة:
الأول: لمناسبة رمضان، فإنه شهر تضاعف فيه الحسنات، وترفع الدرجات، فيتقرب العباد إلى مولاهم بكثرة الأعمال الصالحات.
الثاني: لكثرة قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان، والقرآن فيه آيات كثيرة تحثُّ على الإنفاق في سبيل الله، والتقلل من الدنيا، والزهد فيها، والإقبال على الآخرة، فيكون في ذلك تحريك لقلب القارئ نحو الإنفاق في سبيل الله تعالى. وحريٌّ بكل من يقرأ القرآن أن يكثر من الصدقة في سبيل الله.
الثالث: لأنه صلى الله عليه وسلم كان يلقى جبريل في كل ليلة من رمضان، ولقاؤه إياه هو من مجالسة الصالحين، ومجالسة الصالحين تزيد في الإيمان، وتحث الإنسان على الطاعات، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصدقة في رمضان.
- والحديث عن جوده صلى الله عليه وسلم يطول، فهو -حقًا- أجود الناس، وأنواع جوده لا تنحصر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً إِلاّ أَلاّ يجد، حتى إنه ربما سأله رجل ثوبه الذي عليه؛ فيدخل بيته ويخرج وقد خلع الثوب، فيعطيه السائل(11).
ويعطي صلى الله عليه وسلم عطاءَ من لا يخشى الفقر، فقد حدث أن أعطى غنمًا بين جبلين(12).
وربما اشترى الشيء، ودفع ثمنه، ثم رده على بائعه وأبقى عنده الثمن (13)، وربما اشترى فأعطى الثمن وزيادة .
وربما اقترض شيئًا فرده بأحسن منه. وكان يقبل الهدية ويثيب عليها أكثر منها(14).
وكان - عليه صلوات الله وسلامه - يفرح بأن يعطي أكثر من فرح الآخذ بما يأخذ، حتى إنه ليصدق عليه - وحده - قول الأول:تـراه إذا ما جئتَـه متهلِّـلاً كأنك تُعطيه الذي أنتَ سائله( )
هذا غيض من فيض من فنون جوده صلى الله عليه وسلم، التي تتأبى على الحصر والإحصاء.
والكلام عن الصدقة والإنفاق يجرنا إلى إلقاء الأضواء على مصارف مهمة لها:
أحدها: المجاهدون في سبيل الله، قال تعالى:( إِنَّمَا الصَّدقَاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعَامِلينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ والْغَارِمِينَ وَفِي سَبَيلِ اللِه) [التوبة: 60].
فالمجاهدون في سبيل الله من الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة.
ولا ريب أن هذا المصرف من أعظم مصارف الزكاة في هذا العصر خاصة.
الثاني: الفقراء والمحتاجون، وبخاصة الشباب وطلاب العلم، ممن قد يكون فقيرًا، أو معسرًا، أو يريد الزواج ولا يجد ما يكفي لتحقيقه، وفي الزواج من الإعفاف، وإحصان الفرج، والإعانة على طلب العلم، وإكمال شطر الدين، وسائر المصالح ما لا يخفى.
الثالث: جمعيات البر الخيرية الموثوقة؛ لأن هذه الجمعيات تتحرى وتبحث عن المحتاجين، وتفتح ملفات للأسر الفقيرة، وتجري لها رواتب شهرية، فلا بأس أن يوكلهم المرء على إنفاق صدقته على المستحقين ما دام القائمون عليها من الموثوق بدينهم وأماناتهم.
إن إعانة الفقراء والمحتاجين والضعفاء، والبحث عنهم في البيوت القديمة والأحياء الشعبية، وأحيانًا في الأكواخ والعشش؛ من أجلِّ الأعمال وأفضلها عند الله، وأعظمها في القربى والزلفى لديه.
وإنه لعمل كبير أن يقوم تاجر أو محسن بتفقد أهل حارته، والبحث عن المحتاجين منهم، ومدهم بما يستطيع دون منّ ولا أذى، ولا رياء ولا سمعة.
ثم إذا أعطى الغني محتاجًا فليغنه بعطائه، يعطيه ما يكفيه وولده وأسرته لفترة كافية، أو يستطيع أن يؤمن به حاجاته الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها. âوَمَا تُقَدِّمُوا لأنفُسِكُم مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيراً وَأعظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ل [المزمل: 20].
--------------------------------------------------------------------------------
(1)أخرجه مسلم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه أحمد (2325)، الترمذي (2325)، وابن ماجه (4228)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3)حرة: أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت. المعجم الوسيط (1/172).
(4) شرجة: مسيل الماء من الهضاب ونحوها إلى السهل والجمع (شِرَاج). المعجم الوسيط (1/496).
(5) المِسْحَاة: المِجْرَفة من الحديد، وهي من السحو وهو: الكشف والإزالة. لسان العرب (2/598).
(6) أخرجه مسلم (2984) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه البخاري (7512)، ومسلم (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(8)البخاري (1462)، ومسلم (80) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(9)أخرجه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
(10) أخرجه الطبراني في الكبير (8014) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (3/115) وقال: إسناده حسن. أخرجه البخاري (2093) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(11)أخرجه مسلم (2312) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(12) كما في قصة جمل جابر المشهورة التي أخرجها البخاري (2861)، ومسلم (715) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(13) أخرجه البخاري (2585) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(14) البيت لزهير بن أبي سلمى خزانة الأدب (1/423)، وبعضهم عزاه لأسماء بن خارجة في مدح عبد الله بن الزبير لما أطلق سراح أم الحكم. انظر الأغاني (14/221).