|
أحآسيس جميلة وهمسـآت دآفئه قصآئِد آلآعضآء آلخآصهـَ بِآقلآمِهٌم أو منقولهـ |
للإتصال بالإدارة عند حدوث أي مشكلة أو إبداء رأي
الإهداءات |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
05-20-2008, 08:08 PM | #1 | ||||
|
يوم بكى الشيطان
خمسون عاماً أمضاها عبد الله على خازوق القرن العشرين، ثم انتقل في ليلة واحدة إلى خازوق القرن الحادي والعشرين. ولكنّه لم ير طوال حياته التي أمضاها ومازال يمضيها متخوزقاً أعجب مما رآه تلك الليلة.. صحيح أنّه رأى من قبل كثيراً من البشر يبكون بصمت وعويل لفقد المال والأهل والولد والصديق ونسمة الحرية كما رأى آخرين يبكون لأسباب غريبة. فقد شاهد مرّة مسؤولاً كان كبيراً يبكي لأنهم غدروا به ونسلوا من تحته الكرسيّ الذي تبارك بمؤخرته عشرين عاماً، ورأى امرأة ذات فرو ثمين تمتلئ عيناها وعينا كلبها بالدموع لأنها لم تستطع الحجز في فندق ذي خمسة نجوم ليلة رأس السنة. كما شاهد فتى ذا خاتم وسلسال وخلخال يبكي بحرقة ويهدّد بالانتحار لأنّ والده لم يشتر لـه كلباً صينياً بل اشترى لـه كلباً من نوع (دوبرمان). وشاهد شاعراً يندب ويهجو العالم لأنّ قصيدته لم تحرك أريحية ممدوحيه بمنصب أو مال أو حتى بمائدة عشاء. ورأى بأمّ عينه موظفاً يبكي لأنّ رئيسه في الدائرة قد رفع نسبة حصّته من الرشوة.. كلُّ هذا بدا لعبد الله عادياً أمام مشهد المخلوق الذي رآه يبكي هذا اليوم.. حدث هذا في تلك الليلة التي تآمرت فيها قدماه وعقله وساقاه إلى حديقة غنّاء تقع في أحضان أرقى أحياء المدينة وبعد أن جلس يتأمل الماء والخضرة والوجه الحسن وتداعبه نسيمات ناعسة صحا على صوت الحارس الخشن يأمره بارتياب أن يغادر الحديقة فقد حان موعد إغلاقها.. ولم يشأ أن يعكّر مزاجه بالرجوع إلى حارته الغارقة بالفقر والقمامة والطين والأولاد، فسار في الشوارع النظيفة يغمره إحساس بالغربة.. فجأة صفعتْ عينيه شعشعة أنوار تغمر قصراً رخامياً تتوافد إليه عشرات السيارات الفخمة وتصدح في أرجائه موسيقا النصر، فكمن خلف إحدى الأشجار اليابسة يمتَّع بصره بالنظر إلى المسؤولين والرخام والصدور العارية والأفخاذ والأنوار والسيارات. فجأة شعر برائحة نفّاذة قريبة تخترق أنفه كرائحة مومس مضمّخة بأفخم العطور، التفت خلفه فصعقه منظر الشيطان الذي تعرفونه بقرونه ووجهه الثعلبي وشعره وذنبه الطويل:
ـ لا تهرب مني أرجوك! جأر الشيطان متوسّلاً والدموع تنساب من عينيه. ـ ألست الشيطان؟ ـ بلى أنا الذي تلعنونه كلّ دقيقة. ـ وما الذي يبكيك؟ ـ سأحكي لك كلّ شيء.. أتعرف أولاً صاحب هذا القصر المنيف؟ ـ كلا.. ـ لا بأس.. اسمه الآن عفيف بك.. تعرّفت عليه منذ عشرين عاماً في أحد الأحياء الطفيلية التي تلتصق بالمدينة كما يلتصق القُراد بجلد الغنمة العجفاء.. كانوا ينادونه عفيف الخفيف.. توسّمت فيه النباهة الإبليسية التي أشتهيها فقد كان يمارس جميع الأعمال التي تسعدني. سرقة.. خطف.. نشل.. نصب.. احتيال.. ولكنها كانت أعمالاً صبيانية سخيفة لا تروي مطامحي.. وانتظرته في أحد الأيام أمام باب السجن الذي استضافة ستة أشهر عقاباً لـه على سرقة سجادة من أحد المساجد.. لحقتُ به ووسوست لـه: "دعك من هذه الأعمال الصبيانية يا عفيف واسمعني جيداً". وحين رأيته مصغياً تابعت أهمس لـه كالعاشق الولهان: "إذا أردت أن تصل إلى ما تريد فعليك أن تفعل ما أريد". فسألني بشوق: "وماذا تريدني الآن أن أفعل"؟ فأجبته: "ابدأ بتجارة الدخان المهرّب". وعاد يسألني بغباء: "ومن أين لي بالمال؟". فضحكت ساخراً من قلّة حيلته: "يا غبي!. إسوارة أختك المتزوجة جاهزة وأنت تعرف مكانها أثناء حمّامها أو ذهابها إلى عملها..!". وسرعان ما راقت لـه الفكرة، وفي المساء كان ثمن الإسوارة في جيبه ولا يعنيني طلاق أخته الذي حصل بل سأكمل لك قصة صاحب هذا القصر حتى تعرف مقدار ما جلبه لي أخيراً من قهر.. فمن هذا المال الذي تسمّونه أنتم حراماً انطلق. كانت البداية بضع كروزات.. إلى صندوق فصناديق إلى شاحنة صغيرة فقاطرة ومقطورة. ولما ضاقت خزانته بالمال نصحته بصدق إبليسي وقلت: "يا عفيف عليك أن تطّور الحال إلى تجارة أرفع وربحها أسرع ففهمها على الطاير وانغمس في التجارة التي تسمّونها ممنوعات يجلب ما خفّ وزنه وغلا ثمنه". وحين قرأ صدفة في إحدى الصحف المغرضة المفترية أنّ أحد الشبان المدمنين قد مات واتّهموا زوراً بقتله تجّار المخدرات.. أسرعت أهمس لـه: "لا يقلقك هذا الإدعاء فهو افتراء وعليهم أن يشكروك لأنّ ما تهديه إليهم ينسيهم الهموم ويحملهم إلى عالم الأحلام والنجوم ولا يموت أحد إلاّ في يومه وهذا مقدر لـه.. ولستَ الوحيد الذي يجلب هذه المخدرات". فارتاح لـهذا التفسير ونسي بعدها تماماً شيئاً تسمّونه بغباء الضمير، وأعجبتني جداً مبادرته حين قرن تجارة المخدرات بتجارة العملة الصعبة فصار يشفط اليورو والين والدولار ويعيدها إلى بلادها بكّل أمان، وبعد أن فاض عنده المال وصار لديه أرصدة وشيكات وبطاقات اعتماد وأسهم وسندات.. همست في أذنه: "يا عفيف". فصرخ في وجهي لأول مرة مهدّداً: "عفيف بك إذا سمحت!" فاعتذرت لـه مسروراً عن قلة الأدب وقد تملكني الطرب وتابعت: "آن لك يا عفيف أن تغسل أموالك كما يقول هؤلاء المتشدّقون وأن تقوم بأعمال شريفة كما يزعمون". فسألني: "ما رأيك في مكتب استيراد وتصدير؟!" فأجبته دون تفكير: "هذا نعم الرأي والتدبير". وانقلب عفيف إلى تاجر دولي يُحسب لـه ألف حساب وينتقل كالذباب النشيط بين ماليزيا والصين وكوريا وتايوان.. ويجلب للوطن أحسن النفايات. فتركته عدة سنوات بعد أن اطمأننت إلى عمله بما يرضيني. ولكن حين زرته في إحدى المرات لمحتُ نار الحسد في عينيه ولما سألته عن السبب قال: "أيعجبك أن يزاحم سيارتي موكب مسؤول تتقدمه الموتيسكلات وتلحق به السيارات ويلوّح لـه الرجال والأطفال والسيدات وهو لا يملك عُشرَ ما أملكه ويتمّنى رضائي ولا يدرك". فطيّبت خاطره وقلت لـه: "معك حق فقد آن الأوان كي تحمي مالك بالمنصب والسلطان ومادمت تملك هذا المال فأنت واصل لا محال". فشكرني على هذه النصيحة وضمّني ضّم عشيقة. ورشّح نفسه في البداية لمجلس الأعيان وأرشدته كيف يخدع قطيع الجماهير فيبدو مدافعاً عن المظلومين.. مهرولاً من أجل الملهوفين.. لاطماً خدّيه من أجل العاطلين... ممزقاً ثيابه من أجل المشردين... متبرعاً من أجل المساكين... داعياً من أجل نصرة الدين.. فاقداً وعيه لأخبار فلسطين.. فتّمت الانتخابات والتهم أعلى الأصوات.. وهاهو الآن كما ترى يحتفل في قصره بهذا النصر المبين. صمت الشيطان ودموعه تسيل مدراراً من عينيه الماكرتين ويرتجف ذيله المعقوف ألماً وغضباً. فاستجمع عبد الله بعضَ الشجاعة وقال مواسياً: ـ أنت مخطئ يا حضرة الشيطان.. كان الأجدى بك الآن أن تفرح بنجاح مُريدك ولا تحزن. وهنا لطم الشيطان وجهه وشدّ قرنيه وصرخ: ـ أفرح.؟!!.. ألا ترى ما كتبه هذا الناكر على بوابة القصر؟!.. انظر ماذا كتب.. (هذا من فضل ربي). ثم أجهش الشيطان بالبكاء وتبعه عبد الله باللطم والعواء. مع تحياتي : الاخطبوط العميد |
||||
|
|