بلغني أيُّها المَلِكُ السَّعِيد , ذو الرّأي السَّديد , والعَقـلِ الرَّشِـيد ,
أنهُ كان في قَديمِ الزَّمانْ , وسالِفِ العصرِ والأوان
ملكٌ مِنْ ملوكِ ساسان .
كان ملكاً حَسَنُ الخُلُقِ , حسَنُ الصُّورَة كريمُ الطَّبائع عادِلاً في مملكته , حافِظاً لرعيَّتِه
وكان اسمُهُ "مَرجان "
وعلى ذِمَّتِهِ ثلاثةٌ من النِّسوان ,
ولديهِ مِنهُنَّ ثلاثُ بناتٍ حِسان .
وأمَّا الذّكور فلا تلبِثُ نِساءِهِ أن يحملن بِهِم فلا يقُرُّ لهم في أرحامِهِنَّ قرار .
فرضيَ الملكُ "مرجان" , وشَكَر الكريمَ المنَّان
على مارَزَقَه , ومِن الذُّريَّةِ لم يَقطَعه .
أمَّا بناتُهُ بديعاتُ الجمال , حَسَناتُ الإعتدال طلباتُهُنَّ أوامِر ,
يأمُرنَ فيُقال لهنَّ حاضِر .
تكبُرُهُنَّ " كَهْرَمان " , وتتوسَّطُهُنَّ " أُرجُوان " , وتصغُرُهُنَّ " جُمان " .
أمَّا " كهرَمان " فكانت حادَّة الطِّباع , شديدة الإندِفاع
تقضي مُعظم وقتها في رعايةِ الخيول , ولِلأسفار والنُّزهَةِ لديها مُيُول .
وأمَّا " أُرجوان " فكانت بديعَةَ الجمال , كثيرةَ الدَّلآل ,
والإبنةُ المُترَفَة , ذاتَ الأحاسيسِ المُرهَفَة .
وأمَّا " جُمان " فكانت قليلَةَ الكلآم , مُنكَبَّةً على تاريخِ السِّيرِ والأعلآم .
وذات يومٍ فَكَّرَ الملكُ " مرجان " في شؤونِ الرَّعيَّة
ومَنْ سيتولَّى حُكمَ البِلآدِ بعدَ أن توافِيهِ المَنيَّة ,
فارتأى أن يُجري لبناتِهِ اختِبار ,
ومَن تجتازُهُ سيَقَعُ عليها الإختيار ,
فَهو أشبَهُ باختبارِ القُدُرات ,
لكِنَّهُ ليسَ على ورقٍ إنَّما حُكمٌ تنفيذيٌ على بعضِ الوِلايات .
فأمر الملكُ " مرجان " جاريته أن تدعو بناتَهُ ليقِفنَ في حضرتِهِ ,
فأتتْ " كَهرَمان " ثُمَّ " أُرجوان " , فتلتها " جُمان "
ووقفن بين يدي والِدِهِنَّ , وقُلنَ :
سمعاً وطاعةً يا ملكُ الوِلآيات , مُرنا تجِدُنا مُطيعات , وعلى عهدِك باقيات .
ففرِح المَلِكُ " مرجان " بِبرِّ بناتِهِ وفصاحَتِهِنَّ وقال :
أهلاً بِبناتي , ياقرَّة عيني وبسمَةَ شفاتي , وفلذاتِ كَبِدي وفرحةِ حياتي ,
إنَّ على كُلّ واحدةٍ منكُنَّ أن تحكُم إحدى الولآيات ,
ولها أن تتّخِذ بعض الإجراءات ,
كما عليها أن تُصدِر بعض القرارات .
أمَّا أنا فلا ترجِعنَ إلَيَّ فيما يعضِلُ عليكُنّ ,
وأمَّا وزيري إن وَدَدْتُنَّ فأشرِكوهُ رأيَكُنَّ ,
عَلَّهُ يُصِيبُ الرأي إن أخطَأت إحداكُنَّ .
ولكُنَّ في حُكمِ الوِلايةِ أسبُوع ,
شرط أن لا تتجاوَزنَ المَمنُوع .
فبدأ الاختِبار ...
فأمَّا " كَهرَمان " فلم يقِرُّ لها قرار ,
كانت تأمُرُ ثُمَّ تُغيِّرُ المسار ,
ولكِنَّها فرضَت الضّرائب ,
وظَنَّت أنَّ قرارَها صائب ,
فَعَمَّت الفوضى في الوِلاية ,
وأصبحت الشِّدَّةُ والقَسوةُ لها آية .
وأمَّا " أُرجُوان " فأعفَت عنِ السُّجناء ,
ومنحَت أرضاً لِكُلِّ واحِدٍ من الفقراء ,
وسَمَحَت لِلمرأةِ بالقيادَة ,
وهكذا أصبح الفسادُ في زِيادة .
وأمَّا " جُمان " فلا تقرُّ القرار
إلَّا بعد مُشاورةِ الوزير ,
فماخاب من استخار , ولانَدِم من استشار .
فلمَّا انتهت مُدَّةُ الاختبار , وعاد لِلبلادِ الأمنُ والإستقرار
رجِعن الأميراتِ الثلآثة إلى القَصر ,
ووقفنَ بِحضرةِ المَلِكِ يترقبنَ مِنهُ أيّ أمر .
فقال : اذهبن إلى مخادِعِكنّ , فلكُلّ حادثٍ حديث ,
وأمَّا الوزيرُ فكان بينه وبين الملك حديث .
ومازال على هذا الحال حتى انقضى النَهار ,
وبالليلِ خرجَت " أُرجُوان " مِنْ دارِها مُتوجِّهةً لدارِ أبيها ,
وأُختُها الكُبرى تليها .
فخرج " مرجان " وقال :
" أُرجوان " !!
مابِكِ يانُور العيْن ؟؟
فدَنَت مِنهُ وقَبَّلَت مِنهُ الجَبين وأفاضَت دَمعَ العَيْن وأنشَدَت هذين البيتين :
مابالُك ياتاجَ رأسي ومصدر وقاري ؟ ... لم تزُرني اللّيلَةَ في داري
أفي الخاطِرِ عليَّ شيءٌ أم انتَ عن حُكمي زارٍ ؟؟ .. !!
فقال : هدِّئي مِن روعكِ ,
واذهبي وأختُكِ
فمن أدرَك الصَّباح كان في فلآح .
فلمَّا أصبَحَ الصَّباح , نادى بِبناتِهِ وصَرَّحَ بالأمرِ البراح ,
وقال لهُنَّ هذه الكلماتُ المُختصرات :
إنّ الشِّدّة والقسوة تُنفِّضُ الرَّعيَة
والّلينُ والتراخي يُفسِدُ الرَّعيّة
والحزمُ والمشُورَة تحفظُ الرَعيَّة .
فإنّني اخترتُ أختُكُنَّ " جُمان "
نعم إنها أصغرُكُنَّ سِنَّاً , لكِنَّها أكبرُكُنَّ عقلاً .
فرضين بهذا الحُكم وقبَّلن جبينَ والِدِهنّ مُتمنين له العُمر المديد والعيشَ الرَّغيد .
وَ أدرَكَ شَهرَزَادَ الصَّباح , فَسَـكَـتـَتْ عَـن الكَلام ِ المُباح .
.