[align=justify]بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..أما بعد
جلست أيها الأحبة مع نفسي ذات يوم أتأمل حالها فوجدته مريب .. وأتفكر في أمرها فإذا به غريب .. وأرى ما شأنها فإذا به عجيب.. فلما حدقت النظر فيها رأيت العجب العجاب .. جميل شكلها .. فاتن مظهرها .. زكية رائحتها .. مغرية حركاتها .. فتتبعتها فإذا بالدراهم والدنانير تملكها .. والدور والقصور تسكنها .. أفضل المشارب تشرب .. وأحسن المراكب تركب .. هذا بعض أوصافها الخلابة .. وجزء يسير من نعوتاتها الجذابة .. حيث تمنى الكثير الكثير من الناس أن تكون من نصيبه.. الرجال عليها يتنافسون .. والشباب من أجلها يتسابقون .. حتى النساء من شدة جمالها إليها يركضن...
أخي الحبيب..
كأني أرى على وجهك من التعجب علامات .. ومن الاستفهام إشارات .. كأنك أخي تقول: ما بال محدثنا اليوم عن طريق الجادة خرج وللغزل والوصف نهج ..
أقول: حسبك فليس لمحدثك عن جادة الطريق مخرج .. وليس له في الغزل المحرم مركب .. ورويدك أخي فلا تظن بي إلا خيرا .. ولا تذهب بفكرك عني عدة أميال فما بينك وبيني إلا أمتار..
فإني لا أعني بكلامي هذا امرأة حسناء .. ولا فتاة سمراء .... وإنما أعني تلك الدنيا الغراء..أعني تلك الدنيا التي قال تعالى عنها {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
نعم .. أعني تلك الدنيا التي تراكض بعض الناس عليها وأعني تلك الدنيا التي تهافت الناس وجروا وراء حطامها .. وأصبح أكبر همهم منصب على شهواتها .. وهم قد يقتتلون ويتخاصمون من أجلها ولا أبالغ إن قلت بعض الأقارب بل حتى الأبناء وأباءهم يتشاجرون بسببها...
مالي رأيت بني الدنيا قد اقتتلوا كأنما الدنيا لهـــم عــرس
إذا وصفت لهم دنياهم ضحكوا وإن وصفت لهم أخراهم عبسوا
وهذا البيت يذكرني قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}..
وفي هذه الكلمة أحاول أن أفصح وأبين جزء يسيراً عن حقيقة الدنيا ..
اسمع قوله تعالى: " وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا"..
وفي هذه الآية ضرب الله مثل هذه الدنيا بصفتها الحقيقية ليتعرف عليها الناس ويتصوروها حق تصورها فمثل الحياة الدنيا كمثل الماء الذي نزل على الأرض فاختلط مع النبات حتى أنبتت من كل زوج بهيج .. فازدهر النبات واخضر فأعجب أصحابه حتى سرهم ما يشاهدون .. يفرحهم ما ينظرون إليه من جمال وحسن .. وفجأة يأمر الله برياح لاحفة محرقة فأصبح هذا النبات متهشماً متكسرا.. ومفتتا تبثه وتنشره الرياح هنا وهناك .. وكأن شيئاً لم يكن فأين النبات الناضر ، والمنظر الباهر؟! فأصبحت الأرض غبراء ترابا .. فمثل هذا المثال الرباني مثل هذه الدنيا .. فبينما صاحبها قد أعجب بشبابه وماله وجاهه ..و خاض في الشهوات والملذات وفجأة أتلف ماله وفقد جاهه وأصابته مصيبة الموت.. فذهب عنه سروره .. وزالت لذته .. وانفرد بصالح أو سيء أعماله هنالك يعض الظالم على يديه .. ويتمنى العود إلى الدنيا لا ليستكمل شهواته بل ليستدرك ما فرط منه ..
أخي الحبيب..هل وعيت هذا المثال وفهمته جيداً ؟ إذاً أخي الحبيب تعال معي لسيرة المصطفى ونرى بعض حاله مع الدنيا .. فالرسول خير المرسلين وقائد الغر المحجلين وهو صاحب الدعوة المستجابه ومع ذلك كله ... أتعلمون أنه خرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير كما أخبر بذلك أبو هريره رضي الله عنه(البخاري).
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول كنَّا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهله في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله نار وكان طعامهم الأسودان التمر والماء) متفق عليه
بل اسمعوا هذا الحديث الذي رواه مسلم .. خرج الحبيبذات يوم أو ليله فإذا به يلتقي بأبي بكر الصديق وعمر الفاروق فسألهما مالذي أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟قالا:الجوع يا رسول الله فقال الرسول:(وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما).
و عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله على حصير فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء. فقال: مالي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها " رواه الترمذي..
حيث لو أن الدنيا مكانها رفيع وشأنها عظيم لطلبها الحبيبودعا ربه أن يعطيه الدنيا بملذاتها وشهواتها لكنهيعلم أن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضه .. وهي ظل زائل فانيه لا محاله بل هي ملعونه أي مبغوضه ساقطه كما أخبر حيث قال:(ألا إن الدنيا ملعونه ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه وعالماً ومتعلماً).
لذلك جلس النبي على منبر والصحابة من حوله كما روى ذلك أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال : " إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ".
حيث حذر النبي صحابته وأمته من إنفتاح الدنيا عليهم وخشي عليهم أن يشتغلون بملهياتها وملذاتها حتى تفسد دينهم وبالتالي آخرتهم وهاهو النبي يوضح لنا ما مقدار الدنيا بالنسبة للآخرة حيث قال " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ".. واسمع أخي الكريم لهذا الحديث الذي رواه مسلم وتأمله جيداً عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله مر بالسوق والناس كنفيه، فمر بجدي أسك - يعني مقطوع الأذن - ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: " أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به!؟ ثم قال:" أتحبون أنه لكم ؟" قالوا: والله، لو كان حياً كان عيباً. أنه أسك، فكيف وهو ميت! فقال: " فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم" رواه مسلم.
وبعد هذا كله أقول لمن قد غرقوا في ملهيات الدنيا وقد خاضوا في ملذاتها وأقول لمن يتمتع بنعيمها الزائل وأقول لمن ألهى بالأموال والعقارات وبالأسهم والمقاولات وقد لا يهمه مايفعله من المعملات أهي من الحلال أو من المحرمات أقول لهم أسمعوا هذا الحديث فقد يكون سبباً في يقظة من غرق في سبات نومه أو قد يكون سبباً في تذكير من نسي آخرته.. قال رسول الله :" يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ - أي يغمس - في النار صبغة، ثم يقال: يابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله، يارب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط" رواه مسلم.
أيها الأحبه فلنطلق شهوات هذه الدنيا وملذاتها المحرمة طلاقاً ثلاثاً لا رجعه فيه أبداً ولنتق الله سبحانه في أنفسنا ولنعمل في هذه الدنيا ما أمرنا الله به ورسولهولنبتعد عن ما نهانا الله عنه ورسوله ولنعمل في هذه الدنيا ما يسرنا أن نراه يوم القيامة
واعلم أخي الفاضل أن هذه الدنيا دار مقر لا مستقر وهي ظل زائل لا دائم والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة..
وفي الختام أعلم أن الرسول يقول " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "..فيا ترى أخي الكريم هل الدنيا لك سجن أم جنة .[/align]