إذا فيه مشاكل في دخول الملتقى راسلوا الإدارة من خلال قسم مجلس الزوار

العودة   ملتقى مدينة العيون > قسم الملتقيات العامة > ~ نـــفــحــــَآتٌ إِيــم ــَــآنــيــة
التسجيل التعليمات التقويم مشاركات اليوم البحث

للإتصال بالإدارة عند حدوث أي مشكلة أو إبداء رأي

الإهداءات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-13-2008, 08:43 AM   #1

ץمْ ـنَآدِيץ
عيوني ماسي
 
الصورة الرمزية ץمْ ـنَآدِيץ

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 2077
التسِجيلٌ : Oct 2007
مشَارَڪاتْي : 8,580
 نُقآطِيْ » ץمْ ـنَآدِيץ is on a distinguished road
افتراضي ..(قصص الانبياء+الرسل)..


نبذة:


أبو البشر، خلقه الله بيده وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء وخلق له زوجته وأسكنهما الجنة وأنذرهما أن لا يقربا شجرة معينة ولكن الشيطان وسوس لهما فأكلا منها فأنزلهما الله إلى الأرض ومكن لهما سبل العيش بها وطالبهما بعبادة الله وحده وحض الناس على ذلك، وجعله خليفته في الأرض، وهو رسول الله إلى أبنائه وهو أول الأنبياء.



المسيرة


سيرته:


خلق آدم عليه السلام:


أخبر الله سبحانه وتعالى ملائكة بأنه سيخلق بشرا خليفة في الأرض - وخليفة هنا تعني على رأس ذرية يخلف بعضها بعضا. فقال الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).


ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم تجارب سابقة في الأرض , أو إلهام وبصيرة , يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق , ما يجعلهم يتوقعون أنه سيفسد في الأرض , وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له , هو وحده الغاية للوجود . . وهو متحقق بوجودهم هم , يسبحون بحمد الله ويقدسون له, ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته !


هذه الحيرة والدهشة التي ثارت في نفوس الملائكة بعد معرفة خبر خلق آدم.. أمر جائز على الملائكة، ولا ينقص من أقدارهم شيئا، لأنهم، رغم قربهم من الله، وعبادتهم له، وتكريمه لهم، لا يزيدون على كونهم عبيدا لله، لا يشتركون معه في علمه، ولا يعرفون حكمته الخافية، ولا يعلمون الغيب . لقد خفيت عليهم حكمة الله تعالى , في بناء هذه الأرض وعمارتها , وفي تنمية الحياة , وفي تحقيق إرادة الخالق في تطويرها وترقيتها وتعديلها , على يد خليفة الله في أرضه . هذا الذي قد يفسد أحيانا , وقد يسفك الدماء أحيانا . عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء , والخبير بمصائر الأمور: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).

وما ندري نحن كيف قال الله أو كيف يقول للملائكة . وما ندري كذلك كيف يتلقى الملائكة عن الله ، فلا نعلم عنهم سوى ما بلغنا من صفاتهم في كتاب الله . ولا حاجة بنا إلى الخوض في شيء من هذا الذي لا طائل وراء الخوض فيه . إنما نمضي إلى مغزى القصة ودلالتها كما يقصها القرآن .


أدركت الملائكة أن الله سيجعل في الأرض خليفة.. وأصدر الله سبحانه وتعالى أمره إليهم تفصيلا، فقال إنه سيخلق بشرا من طين، فإذا سواه ونفخ فيه من روحه فيجب على الملائكة أن تسجد له، والمفهوم أن هذا سجود تكريم لا سجود عبادة، لأن سجود العبادة لا يكون إلا لله وحده.


جمع الله سبحانه وتعالى قبضة من تراب الأرض، فيها الأبيض والأسود والأصفر والأحمر - ولهذا يجيء الناس ألوانا مختلفة - ومزج الله تعالى التراب بالماء فصار صلصالا من حمأ مسنون. تعفن الطين وانبعثت له رائحة.. وكان إبليس يمر عليه فيعجب أي شيء يصير هذا الطين؟


سجود الملائكة لآدم:


من هذا الصلصال خلق الله تعالى آدم .. سواه بيديه سبحانه ، ونفخ فيه من روحه سبحانه .. فتحرك جسد آدم ودبت فيه الحياة.. فتح آدم عينيه فرأى الملائكة كلهم ساجدين له .. ما عدا إبليس الذي كان يقف مع الملائكة، ولكنه لم يكن منهم، لم يسجد .. فهل كان إبليس من الملائكة ؟ الظاهر أنه لا . لأنه لو كان من الملائكة ما عصى . فالملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . . وسيجيء أنه خلق من نار . والمأثور أن الملائكة خلق من نور . . ولكنه كان مع الملائكة وكان مأموراً بالسجود .


أما كيف كان السجود ؟ وأين ؟ ومتى ؟ كل ذلك في علم الغيب عند الله . ومعرفته لا تزيد في مغزى القصة شيئاً..


فوبّخ الله سبحانه وتعالى إبليس: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ) . وبدلا من التوبة والأوبة إلى الله تبارك وتعالى، ردّ إبليس بمنطق يملأه الكبر والحسد: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) . هنا صدر الأمر الإلهي العالي بطرد هذا المخلوق المتمرد القبيح: (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) وإنزال اللعنة عليه إلى يوم الدين. ولا نعلم ما المقصود بقوله سبحانه (مِنْهَا) فهل هي الجنة ؟ أم هل هي رحمة الله . . هذا وذلك جائز لكن الأرجح رحمة الله تعالى، فلم يكن إبليس في الجنة، وحتى آدم عليه السلام لم يكن في الجنة على الأرجح . ولا محل للجدل الكثير . فإنما هو الطرد واللعنة والغضب جزاء التمرد والتجرؤ على أمر الله الكريم .


قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) (ص)


هنا تحول الحسد إلى حقد . وإلى تصميم على الانتقام في نفس إبليس: (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) . واقتضت مشيئة الله للحكمة المقدرة في علمه أن يجيبه إلى ما طلب , وأن يمنحه الفرصة التي أراد. فكشف الشيطان عن هدفه الذي ينفق فيه حقده: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ويستدرك فيقول: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فليس للشيطان أي سلطان على عباد الله المؤمنين .


وبهذا تحدد منهجه وتحدد طريقه . إنه يقسم بعزة الله ليغوين جميع الآدميين . لا يستثني إلا من ليس له عليهم سلطان . لا تطوعاً منه ولكن عجزاً عن بلوغ غايته فيهم ! وبهذا يكشف عن الحاجز بينه وبين الناجين من غوايته وكيده ; والعاصم الذي يحول بينهم وبينه . إنه عبادة الله التي تخلصهم لله . هذا هو طوق النجاة . وحبل الحياة ! . . وكان هذا وفق إرادة الله وتقديره في الردى والنجاة . فأعلن - سبحانه - إرادته . وحدد المنهج والطريق: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) .

فهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم , يخوضونها على علم . والعاقبة مكشوفة لهم في وعد الله الصادق الواضح المبين . وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم بعد هذا البيان . وقد شاءت رحمة الله ألا يدعهم جاهلين ولا غافلين . فأرسل إليهم المنذرين .


تعليم آدم الأسماء:


ثم يروي القرآن الكريم قصة السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري , وهو يسلمه مقاليد الخلافة: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) . سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات . سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة . وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض . ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى , لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات , والمشقة في التفاهم والتعامل , حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .


أما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية , لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم . ومن ثم لم توهب لهم . فلما علم الله آدم هذا السر , وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء . لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . . وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم , والاعتراف بعجزهم , والإقرار بحدود علمهم , وهو ما علمهم . . ثم قام آدم بإخبارهم بأسماء الأشياء . ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم: (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) .

أراد الله تعالى أن يقول للملائكة إنه عَـلِـمَ ما أبدوه من الدهشة حين أخبرهم أنه سيخلق آدم، كما علم ما كتموه من الحيرة في فهم حكمة الله، كما علم ما أخفاه إبليس من المعصية والجحود.. أدرك الملائكة أن آدم هو المخلوق الذي يعرف.. وهذا أشرف شيء فيه.. قدرته على التعلم والمعرفة.. كما فهموا السر في أنه سيصبح خليفة في الأرض، يتصرف فيها ويتحكم فيها.. بالعلم والمعرفة.. معرفة بالخالق.. وهذا ما يطلق عليه اسم الإيمان أو الإسلام.. وعلم بأسباب استعمار الأرض وتغييرها والتحكم فيها والسيادة عليها.. ويدخل في هذا النطاق كل العلوم المادية على الأرض.


إن نجاح الإنسان في معرفة هذين الأمرين (الخالق وعلوم الأرض) يكفل له حياة أرقى.. فكل من الأمرين مكمل للآخر.


سكن آدم وحواء في الجنة:


اختلف المفسرون في كيفية خلق حواء. ولا نعلم إن كان الله قد خلق حواء في نفس وقت خلق آدم أم بعده لكننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى أسكنهما معا في الجنة. لا نعرف مكان هذه الجنة. فقد سكت القرآن عن مكانها واختلف المفسرون فيها على خمسة وجوه. قال بعضهم: إنها جنة المأوى، وأن مكانها السماء. ونفى بعضهم ذلك لأنها لو كانت جنة المأوى لحرم دخولها على إبليس ولما جاز فيها وقوع عصيان. وقال آخرون: إنها جنة المأوى خلقها الله لآدم وحواء. وقال أكثرهم: إنها جنة من جنات الأرض تقع في مكان مرتفع. وذهب فريق إلى التسليم في أمرها والتوقف.. ونحن نختار هذا الرأي. إن العبرة التي نستخلصها من مكانها لا تساوي شيئا بالقياس إلى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها.


كان الله قد سمح لآدم وحواء بأن يقتربا من كل شيء وأن يستمتعا بكل شيء، ما عدا شجرة واحدة. فأطاع آدم وحواء أمر ربهما بالابتعاد عن الشجرة. غير أن آدم إنسان، والإنسان ينسى، وقلبه يتقلب، وعزمه ضعيف. واستغل إبليس إنسانية آدم وجمع كل حقده في صدره، واستغل تكوين آدم النفسي.. وراح يثير في نفسه ويوسوس إليه: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) . وأقسم إبليس لآدم أنه صادق في نصحه لهم، ولم يكن آدم عليه السلام بفطرته السليمة يظن أن هنالك من يقسم بالله كذا، فضعف عزمه ونسي وأكل من الشجرة هو وحواء.


ليس صحيحا ما تذكره صحف اليهود من إغواء حواء لآدم وتحميلها مسئولية الأكل من الشجرة. إن نص القرآن لا يذكر حواء. إنما يذكر آدم -كمسئول عما حدث- عليه الصلاة والسلام. وهكذا أخطأ الشيطان وأخطأ آدم. أخطأ الشيطان بسبب الكبرياء، وأخطأ آدم بسبب الفضول.


لم يكد آدم ينتهي من الأكل حتى اكتشف أنه أصبح عار، وأن زوجته عارية. وبدأ هو وزوجته يقطعان أوراق الشجر لكي يغطي بهما كل واحد منهما جسده العاري. ولم تكن لآدم تجارب سابقة في العصيان، فلم يعرف كيف يتوب، فألهمه الله سبحانه وتعالى عبارات التوبة (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (23) (الأعرف) وأصدر الله تبارك وتعالى أمره بالهبوط من الجنة.


هبوط آدم وحواء إلى الأرض:


وهبط آدم وحواء إلى الأرض. واستغفرا ربهما وتاب إليه. فأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها ويلوذ بها ... وأخبرهما الله أن الأرض هي مكانهما الأصلي.. يعيشان فيهما، ويموتان عليها، ويخرجان منها يوم البعث.


يتصور بعض الناس أن خطيئة آدم بعصيانه هي التي أخرجتنا من الجنة. ولولا هذه الخطيئة لكنا اليوم هناك. وهذا التصور غير منطقي لأن الله تعالى حين شاء أن يخلق آدم قال للملائكة: "إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" ولم يقل لهما إني جاعل في الجنة خليفة. لم يكن هبوط آدم إلى الأرض هبوط إهانة، وإنما كان هبوط كرامة كما يقول العارفون بالله. كان الله تعالى يعلم أن آدم وحواء سيأكلان من الشجرة. ويهبطان إلى الأرض. أما تجربة السكن في الجنة فكانت ركنا من أركان الخلافة في الأرض. ليعلم آدم وحواء ويعلم جنسهما من بعدهما أن الشيطان طرد الأبوين من الجنة، وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله وعداء الشيطان.


هابيل وقابيل:


لا يذكر لنا المولى عزّ وجلّ في كتابه الكريم الكثير عن حياة آدم عليه السلام في الأرض. لكن القرآن الكريم يروي قصة ابنين من أبناء آدم هما هابيل وقابيل. حين وقعت أول جريمة قتل في الأرض. وكانت قصتهما كالتالي.


كانت حواء تلد في البطن الواحد ابنا وبنتا. وفي البطن التالي ابنا وبنتا. فيحل زواج ابن البطن الأول من البطن الثاني.. ويقال أن قابيل كان يريد زوجة هابيل لنفسه.. فأمرهما آدم أن يقدما قربانا، فقدم كل واحد منهما قربانا، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل. قال تعالى في سورة (المائدة):


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)[COLOR=#993399] لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَإِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) (المائدة)

لاحظ كيف ينقل إلينا الله تعالى كلمات القتيل الشهيد، ويتجاهل تماما كلمات القاتل. عاد القاتل يرفع يده مهددا.. قال القتيل في هدوء:


إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) (المائدة)


انتهى الحوار بينهما وانصرف الشرير وترك الطيب مؤقتا. بعد أيام.. كان الأخ الطيب نائما وسط غابة مشجرة.. فقام إليه أخوه قابيل فقتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل". جلس القاتل أمام شقيقه الملقى على الأرض. كان هذا الأخ القتيل أول إنسان يموت على الأرض.. ولم يكن دفن الموتى شيئا قد عرف بعد. وحمل الأخ جثة شقيقه وراح يمشي بها.. ثم رأى القاتل غرابا حيا بجانب جثة غراب ميت. وضع الغراب الحي الغراب الميت على الأرض وساوى أجنحته إلى جواره وبدأ يحفر الأرض بمنقاره ووضعه برفق في القبر وعاد يهيل عليه التراب.. بعدها طار في الجو وهو يصرخ.


اندلع حزن قابيل على أخيه هابيل كالنار فأحرقه الندم. اكتشف أنه وهو الأسوأ والأضعف، قد قتل الأفضل والأقوى. نقص أبناء آدم واحدا. وكسب الشيطان واحدا من أبناء آدم. واهتز جسد القاتل ببكاء عنيف ثم أنشب أظافره في الأرض وراح يحفر قبر شقيقه.


قال آدم حين عرف القصة: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) وحزن حزنا شديدا على خسارته في ولديه. مات أحدهما، وكسب الشيطان الثاني. صلى آدم على ابنه، وعاد إلى حياته على الأرض: إنسانا يعمل ويشقى ليصنع خبزه. ونبيا يعظ أبنائه وأحفاده ويحدثهم عن الله ويدعوهم إليه، ويحكي لهم عن إبليس ويحذرهم منه. ويروي لهم قصته هو نفسه معه، ويقص لهم قصته مع ابنه الذي دفعه لقتل شقيقه.


موت آدم عليه السلام:



وكبر آدم. ومرت سنوات وسنوات.. وعن فراش موته، يروي أبي بن كعب، فقال: إن آدم لما حضره الموت قال لبنيه: أي بني، إني أشتهي من ثمار الجنة. قال: فذهبوا يطلبون له، فاستقبلتهم الملائكة ومعهم أكفانه وحنوطه، ومعهم الفؤوس والمساحي والمكاتل، فقالوا لهم: يا بني آدم ما تريدون وما تطلبون؟ أو ما تريدون وأين تطلبون؟ قالوا: أبونا مريض واشتهى من ثمار الجنة، فقالوا لهم: ارجعوا فقد قضي أبوكم. فجاءوا فلما رأتهم حواء عرفتهم فلاذت بآدم، فقال: إليك عني فإني إنما أتيت من قبلك، فخلي بيني وبين ملائكة ربي عز وجل. فقبضوه وغسلوه وكفنوه وحنطوه، وحفروا له ولحدوه وصلوا عليه ثم أدخلوه قبره فوضعوه في قبره، ثم حثوا عليه، ثم قالوا: يا بني آدم هذه سنتكم.


وفي موته يروي الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا أبو نعيم، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ قال هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، قال: رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة، قال: أي رب زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود؟ قال فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطىء آدم فخطئت ذريته".

[/COLOR]

التعديل الأخير تم بواسطة ץمْ ـنَآدِيץ ; 10-13-2008 الساعة 08:53 AM
ץمْ ـنَآدِيץ غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-13-2008, 10:21 AM   #2

قطره ندي
عيوني فضي

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 4729
التسِجيلٌ : Sep 2008
مشَارَڪاتْي : 2,290
 نُقآطِيْ » قطره ندي is on a distinguished road
افتراضي

قطره ندي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-13-2008, 05:58 PM   #3

مغرور بس معذور
*غروري سر تألقي*
 
الصورة الرمزية مغرور بس معذور

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 3073
التسِجيلٌ : Apr 2008
مشَارَڪاتْي : 3,778
 نُقآطِيْ » مغرور بس معذور is on a distinguished road
افتراضي

اللّهـْ يَعْطِيك اَلفْ صِحَة وَعَااًفِيَة
دَاِئمَاً َتَأتَيِ بَالجَدِيدً...
يِسلَمَوُاَ يَالَغَلَاً
ولَاعَدِمَنَا تَأَلَقًكً الَدَاِئمً
عَوُاَافِي ياَلغَلاً...
مغرور بس معذور غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-15-2008, 08:13 AM   #4

ץمْ ـنَآدِيץ
عيوني ماسي
 
الصورة الرمزية ץمْ ـنَآدِيץ

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 2077
التسِجيلٌ : Oct 2007
مشَارَڪاتْي : 8,580
 نُقآطِيْ » ץمْ ـنَآدِيץ is on a distinguished road
افتراضي

الله يعافيكم شاكر لكم التواجد والتفاعل الطيبان..
ץمْ ـنَآدِيץ غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-15-2008, 08:52 AM   #5

ץمْ ـنَآدِيץ
عيوني ماسي
 
الصورة الرمزية ץمْ ـنَآدِيץ

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 2077
التسِجيلٌ : Oct 2007
مشَارَڪاتْي : 8,580
 نُقآطِيْ » ץمْ ـنَآدِيץ is on a distinguished road
افتراضي نوح عليه السلام..



نبذة:


كان نوح تقيا صادقا أرسله الله ليهدي قومه وينذرهم عذاب الآخرة ولكنهم عصوه وكذبوه، ومع ذلك استمر يدعوهم إلى الدين الحنيف فاتبعه قليل من الناس، واستمر الكفرة في طغيانهم فمنع الله عنهم المطر ودعاهم نوح أن يؤمنوا حتى يرفع الله عنهم العذاب فآمنوا فرفع الله عنهم العذاب ولكنهم رجعوا إلى كفرهم، وأخذ يدعوهم 950 سنة ثم أمره الله ببناء السفينة وأن يأخذ معه زوجا من كل نوع ثم جاء الطوفان فأغرقهم أجمعين.

المسيرة


سيرته:


حال الناس قبل بعثة نوح:


قبل أن يولد قوم نوح عاش خمسة رجال صالحين من أجداد قوم نوح، عاشوا زمنا ثم ماتوا، كانت أسماء الرجال الخمسة هي: (ودَّ، سُواع، يغوث، يعوق، نسرا). بعد موتهم صنع الناس لهم تماثيل في مجال الذكرى والتكريم، ومضى الوقت.. ومات الذين نحتوا التماثيل.. وجاء أبنائهم.. ومات الأبناء وجاء أبناء الأبناء.. ثم نسجت قصصا وحكايات حول التماثيل تعزو لها قوة خاصة.. واستغل إبليس الفرصة، وأوهم الناس أن هذه تماثيل آلهة تملك النفع وتقدر على الضرر.. وبدأ الناس يعبدون هذه التماثيل.


إرسال نوح عليه السلام:


كان نوح كان على الفطرة مؤمنا بالله تعالى قبل بعثته إلى الناس. وكل الأنبياء مؤمنون بالله تعالى قبل بعثتهم. وكان كثير الشكر لله عزّ وجلّ. فاختاره الله لحمل الرسالة. فخرج نوح على قومه وبدأ دعوته:


يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ


بهذه الجملة الموجزة وضع نوح قومه أمام حقيقة الألوهية.. وحقيقة البعث. هناك إله خالق وهو وحده الذي يستحق العبادة.. وهناك موت ثم بعث ثم يوم للقيامة. يوم عظيم، فيه عذاب يوم عظيم.شرح "نوح" لقومه أنه يستحيل أن يكون هناك غير إله واحد هو الخالق. أفهمهم أن الشيطان قد خدعهم زمنا طويلا، وأن الوقت قد جاء ليتوقف هذا الخداع، حدثهم نوح عن تكريم الله للإنسان. كيف خلقه، ومنحه الرزق وأعطاه نعمة العقل، وليست عبادة الأصنام غير ظلم خانق للعقل.


تحرك قوم نوح في اتجاهين بعد دعوته. لمست الدعوة قلوب الضعفاء والفقراء والبؤساء، وانحنت على جراحهم وآلامهم بالرحمة.. أما الأغنياء والأقوياء والكبراء، تأملوا الدعوة بعين الشك… ولما كانوا يستفيدون من بقاء الأوضاع على ما هي عليه.. فقد بدءوا حربهم ضد نوح.


في البداية اتهموا نوحا بأنه بشر مثلهم:

فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا


قال تفسير القرطبي: الملأ الذين كفروا من قومه هم الرؤساء الذين كانوا في قومه. يسمون الملأ لأنهم مليئون بما يقولون.


قال هؤلاء الملأ لنوح: أنت بشر يا نوح.


رغم أن نوحا لم يقل غير ذلك، وأكد أنه مجرد بشر.. والله يرسل إلى الأرض رسولا من البشر، لأن الأرض يسكنها البشر، ولو كانت الأرض تسكنها الملائكة لأرسل الله رسولا من الملائكة.. استمرت الحرب بين الكافرين ونوح.


في البداية، تصور الكفرة يومها أن دعوة نوح لا تلبث أن تنطفئ وحدها، فلما وجدوا الدعوة تجتذب الفقراء والضعفاء وأهل الصناعات البسيطة بدءوا الهجوم على نوح من هذه الناحية. هاجموه في أتباعه، وقالوا له: لم يتبعك غير الفقراء والضعفاء والأراذل.


هكذا اندلع الصراع بين نوح ورؤساء قومه. ولجأ الذين كفروا إلى المساومة. قالوا لنوح: اسمع يا نوح. إذا أردت أن نؤمن لك فاطرد الذين آمنوا بك. إنهم ضعفاء وفقراء، ونحن سادة القوم وأغنياؤهم.. ويستحيل أن تضمنا دعوة واحدة مع هؤلاء.


واستمع نوح إلى كفار قومه وأدرك أنهم يعاندون، ورغم ذلك كان طيبا في رده. أفهم قومه أنه لا يستطيع أن يطرد المؤمنين، لأنهم أولا ليسوا ضيوفه، إنما هم ضيوف الله.. وليست الرحمة بيته الذي يدخل فيه من يشاء أو يطرد منه من يشاء، إنما الرحمة بيت الله الذي يستقبل فيه من يشاء.


كان نوح يناقش كل حجج الكافرين بمنطق الأنبياء الكريم الوجيه. وهو منطق الفكر الذي يجرد نفسه من الكبرياء الشخصي وهوى المصالح الخاصة.


قال لهم إن الله قد آتاه الرسالة والنبوة والرحمة. ولم يروا هم ما آتاه الله، وهو بالتالي لا يجبرهم على الإيمان برسالته وهم كارهون. إن كلمة لا إله إلا الله لا تفرض على أحد من البشر. أفهمهم أنه لا يطلب منهم مقابلا لدعوته، لا يطلب منهم مالا فيثقل عليهم، إن أجره على الله، هو الذي يعطيه ثوابه. أفهمهم أنه لا يستطيع أن يطرد الذين آمنوا بالله، وأن له حدوده كنبي. وحدوده لا تعطيه حق طرد المؤمنين لسببين: أنهم سيلقون الله مؤمنين به فكيف يطرد مؤمنا بالله؟ ثم أنه لو طردهم لخاصموه عند الله، ويجازي من طردهم، فمن الذي ينصر نوحا من الله لو طردهم؟ وهكذا انتهى نوح إلى أن مطالبة قومه له بطرد المؤمنين جهل منهم.


وعاد نوح يقول لهم أنه لا يدعى لنفسه أكثر مما له من حق، وأخبرهم بتذللـه وتواضعه لله عز وجل، فهو لا يدعي لنفسه ما ليس له من خزائن الله، وهي إنعامه على من يشاء من عباده، وهو لا يعلم الغيب، لأن الغيب علم اختص الله تعالى وحده به. أخبرهم أيضا أنه ليس ملكا. بمعنى أن منزلته ليست كمنزلة الملائكة.. قال لهم نوح: إن الذين تزدري أعينكم وتحتقر وتستثقل.. إن هؤلاء المؤمنين الذي تحتقرونهم لن تبطل أجورهم وتضيع لاحتقاركم لهم، الله أعلم بما في أنفسهم. هو الذي يجازيهم عليه ويؤاخذهم به.. أظلم نفسي لو قلت إن الله لن يؤتيهم خيرا.


وسئم الملأ يومها من هذا الجدل الذي يجادله نوح.. حكى الله موقفهم منه في سورة (هود):


قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) (هود)


أضاف نوح إغواءهم إلى الله تعالى. تسليما بأن الله هو الفاعل في كل حال. غير أنهم استحقوا الضلال بموقفهم الاختياري وملئ حريتهم وكامل إرادتهم.. فالإنسان صانع لأفعاله ولكنه محتاج في صدورها عنه إلى ربه. بهذه النظرة يستقيم معنى مساءلة الإنسان عن أفعاله. كل ما في الأمر أن الله ييسر كل مخلوق لما خلق له، سواء أكان التيسير إلى الخير أم إلى الشر.. وهذا من تمام الحرية وكمالها. يختار الإنسان بحريته فييسر له الله تعالى طريق ما اختاره. اختار كفار قوم نوح طريق الغواية فيسره الله لهم.
وتستمر المعركة، وتطول المناقشة بين الكافرين من قوم نوح وبينه إذا انهارت كل حجج الكافرين ولم يعد لديهم ما يقال، بدءوا يخرجون عن حدود الأدب ويشتمون نبي الله:

قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) (الأعراف)


ورد عليهم نوح بأدب الأنبياء العظيم:


قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) (الأعراف)

ويستمر نوح في دعوة قومه إلى الله. ساعة بعد ساعة. ويوما بعد يوم. وعاما بعد عام. ومرت الأعوام ونوح يدعو قومه. كان يدعوهم ليلا ونهارا، وسرا وجهرا، يضرب لهم الأمثال. ويشرح لهم الآيات ويبين لهم قدرة الله في الكائنات، وكلما دعاهم إلى الله فروا منه، وكلما دعاهم ليغفر الله لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا عن سماع الحق. واستمر نوح يدعو قومه إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما.


وكان يلاحظ أن عدد المؤمنين لا يزيد، بينما يزيد عدد الكافرين. وحزن نوح غير أنه لم يفقد الأمل، وظل يدعو قومه ويجادلهم، وظل قومه على الكبرياء والكفر والتبجح. وحزن نوح على قومه. لكنه لم يبلغ درجة اليأس. ظل محتفظا بالأمل طوال 950 سنة. ويبدو أن أعمار الناس قبل الطوفان كانت طويلة، وربما يكون هذا العمر الطويل لنوح معجزة خاصة له.



وجاء يوم أوحى الله إليه، أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن. أوحى الله إليه ألا يحزن عليهم. ساعتها دعا نوح على الكافرين بالهلاك:

وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) (نوح)


برر نوح دعوته بقوله:


إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (26) (نوح)

الطوفان:


ثم أصدر الله تعالى حكمه على الكافرين بالطوفان. أخبر الله تعالى عبده نوحا أنه سيصنع سفينة (بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) أي بعلم الله وتعليمه، وعلى مرأى منه وطبقا لتوجيهاته ومساعدة الملائكة. أصدر الله تعالى أمره إلى نوح: (وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) يغرق الله الذين ظلموا مهما كانت أهميتهم أو قرابتهم للنبي، وينهى الله نبيه أن يخاطبه أو يتوسط لهم.


وبدأ نوح يغرس الشجر ويزرعه ليصنع منه السفينة. انتظر سنوات، ثم قطع ما زرعه، وبدأ نجارته. كانت سفينة عظيمة الطول والارتفاع والمتانة، وقد اختلف المفسرون في حجمها، وهيئتها، وعدد طبقاتها، ومدة عملها، والمكان الذي عملت فيه، ومقدار طولها، وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء. وقال الفخر الرازي في هذا كله: أعلم أن هذه المباحث لا تعجبني، لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها البتة، ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلا. نحن نتفق مع الرازي في مقولته هذه. فنحن لا نعرف عن حقيقة هذه السفينة إلا ما حدثنا الله به. تجاوز الله تعالى هذه التفصيلات التي لا أهمية لها، إلى مضمون القصة ومغزاها المهم.


بدأ نوح يبني السفينة، ويمر عليه الكفار فيرونه منهمكا في صنع السفينة، والجفاف سائد، وليست هناك أنهار قريبة أو بحار. كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح؟ هل ستجري على الأرض؟ أين الماء الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك؟ لقد جن نوح، وترتفع ضحكات الكافرين وتزداد سخريتهم من نوح. وكانوا يسخرون منه قائلين: صرت نجارا بعد أن كنت نبيا!


إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة الزمنية، إن الباطل يسخر من الحق. يضحك عليه طويلا، متصورا أن الدنيا ملكه، وأن الأمن نصيبه، وأن العذاب غير واقع.. غير أن هذا كله مؤقت بموعد حلول الطوفان. عندئذ يسخر المؤمنون من الكافرين، وتكون سخريتهم هي الحق.


انتهى صنع السفينة، وجلس نوح ينتظر أمر الله. أوحى الله إلى نوح أنه إذا فار التنور هذا علامة على بدء الطوفان. قيل في تفسير التنور أنه بركان في المنطقة، وقيل أن الفرن الكائن في بيت نوح، إذا خرج منه الماء وفار كان هذا أمرا لنوح بالحركة.


وجاء اليوم الرهيب، فار التنور. وأسرع نوح يفتح سفينته ويدعو المؤمنين به، وهبط جبريل عليه السلام إلى الأرض. حمل نوح إلى السفينة من كل حيوان وطير ووحش زوجين اثنين، بقرا وثورا، فيلا وفيلة، عصفورا وعصفور، نمرا ونمرة، إلى آخر المخلوقات. كان نوح قد صنع أقفاصا للوحوش وهو يصنع السفينة. وساق جبريل عليه السلام أمامه من كل زوجين اثنين، لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض، وهذا معناه أن الطوفان أغرق الأرض كلها، فلولا ذلك ما كان هناك معنى لحمل هذه الأنواع من الحيوان والطير. وبدأ صعود السفينة. صعدت الحيوانات والوحوش والطيور، وصعد من آمن بنوح، وكان عدد المؤمنين قليلا.


لم تكن زوجة نوح مؤمنة به فلم تصعد، وكان أحد أبنائه يخفي كفره ويبدي الإيمان أمام نوح، فلم يصعد هو الآخر. وكانت أغلبية الناس غير مؤمنة هي الأخرى، فلم تصعد. وصعد المؤمنون. قال ابن عباس، رضي الله عنهما: آمن من قوم نوح ثمانون إنسانا.


ارتفعت المياه من فتحات الأرض. انهمرت من السماء أمطارا غزيرة بكميات لم تر مثلها الأرض. فالتقت أمطار السماء بمياه الأرض، وصارت ترتفع ساعة بعد ساعة. فقدت البحار هدوئها، وانفجرت أمواجها تجور على اليابسة، وتكتسح الأرض. وغرقت الكرة الأرضية للمرة الأولى في المياه.


ارتفعت المياه أعلى من الناس. تجاوزت قمم الأشجار، وقمم الجبال، وغطت سطح الأرض كله. وفي بداية الطوفان نادى نوح ابنه. كان ابنه يقف بمعزل منه. ويحكي لنا المولى عز وجل الحوار القصير الذي دار بين نوح عليه السلام وابنه قبل أن يحول بينهما الموج فجأة.


نادى نوح ابنه قائلا: يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ
ورد الابن عليه: قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء
عاد نوح يخاطبه: قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ


وانتهى الحوار بين نوح وابنه:


وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ



انظر إلى تعبير القرآن الكريم (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أنهى الموج حوارهما فجأة. نظر نوح فلم يجد ابنه. لم يجد غير جبال الموج التي ترتفع وترفع معها السفينة، وتفقدها رؤية كل شيء غير المياه. وشاءت رحمة الله أن يغرق الابن بعيدا عن عين الأب، رحمة منه بالأب، واعتقد نوح أن ابنه المؤمن تصور أن الجبل سيعصمه من الماء، فغرق.


واستمر الطوفان. استمر يحمل سفينة نوح. بعد ساعات من بدايته، كانت كل عين تطرف على الأرض قد هلكت غرقا. لم يعد باقيا من الحياة والأحياء غير هذا الجزء الخشبي من سفينة نوح، وهو ينطوي على الخلاصة المؤمنة من أهل الأرض. وأنواع الحيوانات والطيور التي اختيرت بعناية. ومن الصعب اليوم تصور هول الطوفان أو عظمته. كان شيئا مروعا يدل على قدرة الخالق. كانت السفينة تجري بهم في موج كالجبال. ويعتقد بعض العلماء الجيولوجيا اليوم إن انفصال القارات وتشكل الأرض في صورتها الحالية، قد وقعا نتيجة طوفان قديم جبار، ثارت فيه المياه ثورة غير مفهومة. حتى غطت سطح الجزء اليابس من الأرض، وارتفعت فيه قيعان المحيطات ووقع فيه ما نستطيع تسميته بالثورة الجغرافية.


استمر طوفان نوح زمنا لا نعرف مقداره. ثم صدر الأمر الإلهي إلى السماء أن تكف عن الإمطار، وإلى الأرض أن تستقر وتبتلع الماء، وإلى أخشاب السفينة أن ترسو على الجودي، وهو اسم مكان قديم يقال أنه جبل في العراق. طهر الطوفان الأرض وغسلها. قال تعالى في سورة (هود):


وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) (هود)


(وَغِيضَ الْمَاء) بمعنى نقص الماء وانصرف عائدا إلى فتحات الأرض. (وَقُضِيَ الأَمْرُ) بمعنى أنه أحكم وفرغ منه، يعني هلك الكافرون من قوم نوح تماما. ويقال أن الله أعقم أرحامهم أربعين سنة قبل الطوفان، فلم يكن فيمن هلك طفل أو صغير. (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) بمعنى رست عليه، وقيل كان ذلك يوم عاشوراء. فصامه نوح، وأمر من معه بصيامه. (وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي هلاكا لهم. طهر الطوفان الأرض منهم وغسلها. ذهب الهول بذهاب الطوفان. وانتقل الصراع من الموج إلى نفس نوح.. تذكر ابنه الذي غرق.


لم يكن نوح يعرف حتى هذه اللحظة أن ابنه كافر. كان يتصور أنه مؤمن عنيد، آثر النجاة باللجوء إلى جبل. وكان الموج قد أنهى حوارهما قبل أن يتم.. فلم يعرف نوح حظ ابنه من الإيمان. تحركت في قلب الأب عواطف الأبوة. قال تعالى في سورة (هود):


وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) (هود)

أراد نوح أن يقول لله أن ابنه من أهله المؤمنين. وقد وعده الله بنجاة أهله المؤمنين. قال الله سبحانه وتعالى، مطلعا نوحا على حقيقة ابنه للمرة الأولى:


يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) (هود)


قال القرطبي -نقلا عن شيوخه من العلماء- وهو الرأي الذي نؤثره: كان ابنه عنده -أي نوح- مؤمنا في ظنه، ولم يك نوح يقول لربه: (إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي) إلا وذلك عنده كذلك، إذ محال أن يسأل هلاك الكفار، ثم يسأل في إنجاء بعضهم. وكان ابنه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان. فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب. أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت. وكان الله حين يعظه أن يكون من الجاهلين، يريد أن يبرئه من تصور أن يكون ابنه مؤمنا، ثم يهلك مع الكافرين.


وثمة درس مهم تنطوي عليه الآيات الكريمة التي تحكي قصة نوح وابنه. أراد الله سبحانه وتعالى أن يقول لنبيه الكريم أن ابنه ليس من أهله، لأنه لم يؤمن بالله، وليس الدم هو الصلة الحقيقية بين الناس. ابن النبي هو ابنه في العقيدة. هو من يتبع الله والنبي، وليس ابنه من يكفر به ولو كان من صلبه. هنا ينبغي أن يتبرأ المؤمن من غير المؤمن. وهنا أيضا ينبغي أن تتصل بين المؤمنين صلات العقيدة فحسب. لا اعتبارات الدم أو الجنس أو اللون أو الأرض.


واستغفر نوح ربه وتاب إليه ورحمه الله وأمره أن يهبط من السفينة محاطا ببركة الله ورعايته. وهبط نوح من سفينته. أطلق سراح الطيور والوحش فتفرقت في الأرض، نزل المؤمنون بعد ذلك. ولا يحكي لنا القرآن الكريم قصة من آمن مع نوح بعد نجاتهم من الطوفان.































ץمْ ـنَآدِيץ غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-17-2008, 09:04 PM   #6

قطره ندي
عيوني فضي

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 4729
التسِجيلٌ : Sep 2008
مشَارَڪاتْي : 2,290
 نُقآطِيْ » قطره ندي is on a distinguished road
افتراضي

جزاك الله خير
قطره ندي غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-19-2008, 08:14 AM   #7

ץمْ ـنَآدِيץ
عيوني ماسي
 
الصورة الرمزية ץمْ ـنَآدِيץ

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 2077
التسِجيلٌ : Oct 2007
مشَارَڪاتْي : 8,580
 نُقآطِيْ » ץمْ ـنَآدِيץ is on a distinguished road
افتراضي موسى عليه السلام - الجزء الاول-




نبذة:

أرسله الله تعالى إلى فرعون وقومه، وأيده بمعجزتين، إحداهما هي العصا التي تلقف الثعابين، أما الأخرى فكانت يده التي يدخلها في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، دعا موسى إلى وحدانية الله فحاربه فرعون وجمع له السحرة ليكيدوا له ولكنه هزمهم بإذن الله تعالى، ثم أمره الله أن يخرج من مصر مع من اتبعه، فطارده فرعون بجيش عظيم، ووقت أن ظن أتباعه أنهم مدركون أمره الله أن يضرب البحر بعصاه لتكون نجاته وليكون هلاك فرعون الذي جعله الله عبرة للآخرين.

.................................................. .......

أرسل موسى وهارون عليهما السلام لأشد الشعوب كرها للحق وابتعادا عنه.. لذلك كانت حياتهما مليئة بالأحداث والمواقف.

ولكي نستطيع عرض هذه القصة بالشكل الصحيح.. تم تقسيمها إلى أربعة أجزاء، كل جزء يتناول مرحلة من مراحل حياة هذين النبيين الكريمين.

أجزاء القصة:

الجزء الأول: يتناول نشأة موسى عليه السلام، وخروجه من مصر إلى مدين هاربا من فرعون وجنوده، ولقاءه بربه في الوادي المقدس.

الجزء الثاني: يتناول عوده موسى عليه السلام لمصر داعيا إلى الله وحده، والصراع بين موسى وفرعون في مصر، وغرق فرعون وجنوده.

الجزء الثالث: يتناول حياة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل بعد غرق فرعون، والأحداث العظيمة التي حدثت أثناء ضياعهم في صحراء سيناء.

الجزء الرابع: يتناول بعض القصص التي حدثت لموسى وقومه، لكن القرآن الكريم لم يحدد لنا زمان ومكان وقوعها (مثل قصة موسى والعبد الصالح، وقصة قارون).

--------------------------------

الجزء الاول

سيرته:

أثناء حياة يوسف علي السلام بمصر، تحولت مصر إلى التوحيد. توحيد الله سبحانه، وهي الرسالة التي كان يحملها جميع الرسل إلى أقواهم. لكن بعد وفاته، عاد أهل مصر إلى ضلالهم وشركهم. أما أبناء يعقوب، أو أبناء إسرائيل، فقد اختلطوا بالمجتمع المصري، فضلّ منهم من ضل، وبقي على التوحيد من بقي. وتكاثر أبناء إسرائيل وتزايد عددهم، واشتغلوا في العديد من الحرف.

ثم حكم مصر ملك جبار كان المصريون يعبدونه. ورأى هذا الملك بني إسرائيل يتكاثرون ويزيدون ويملكون. وسمعهم يتحدثون عن نبوءة تقول إن واحدا من أبناء إسرائيل سيسقط فرعون مصر عن عرشه. فأصدر الفرعون أمره ألا يلد أحد من بني إسرائيل، أي أن يقتل أي وليد ذكر. وبدأ تطبيق النظام، ثم قال مستشارون فرعون له، إن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، والصغار يذبحون، وهذا سينتهي إلى إفناء بني إسرائيل، فستضعف مصر لقلة الأيدي العاملة بها. والأفضل أن تنظم العملية بأن يذبحون الذكور في عام ويتركونهم في العام الذي يليه.

ووجد الفرعون أن هذا الحل أسلم. وحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يقتل فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة. فلما جاء العام الذي يقتل فيه الغلمان ولد موسى. حمل ميلاده خوفا عظيما لأمه. خافت عليه من القتل. راحت ترضعه في السر. ثم جاءت عليها ليلة مباركة أوحى الله إليها فيها للأم بصنع صندوق صغير لموسى. ثم إرضاعه ووضعه في الصندوق. وإلقاءه في النهر.

كان قلب الأم، وهو أرحم القلوب في الدنيا، يمتلئ بالألم وهي ترمي ابنها في النيل، لكنها كانت تعلم أن الله أرحم بموسى منها، والله هو ربه ورب النيل. لم يكد الصندوق يلمس مياه النيل حتى أصدر الخالق أمره إلى الأمواج أن تكون هادئة حانية وهي تحمل هذا الرضيع الذي سيكون نبيا فيما بعد، ومثلما أصدر الله تعالى أمره للنار أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم، كذلك أصدر أمره للنيل أن يحمل موسى بهدوء ورفق حتى يسلمه إلى قصر فرعون. وحملت مياه النيل هذا الصندوق العزيز إلى قصر فرعون. وهناك أسلمه الموج للشاطئ.

رفض موسى للمراضع:

وفي ذلك الصباح خرجت زوجة فرعون تتمشى في حديقة القصر. وكانت زوجة فرعون تختلف كثيرا عنه. فقد كان هو كافرا وكانت هي مؤمنة. كان هو قاسيا وكانت هي رحيمة. كان جبارا وكانت رقيقة وطيبة. وأيضا كانت حزينة، فلم تكن تلد. وكانت تتمنى أن يكون عندها ولد.

وعندما ذهبت الجواري ليملأن الجرار من النهر، وجدن الصندوق، فحملنه كما هو إلى زوجة فرعون. فأمرتهن أن يفتحنه ففتحنه. فرأت موسى بداخله فأحست بحبه في قلبها. فلقد ألقى الله في قلبها محبته فحملته من الصندوق. فاستيقظ موسى وبدأ يبكي. كان جائعا يحتاج إلى رضعة الصباح فبكى.

فجاءت زوجة فرعون إليه، وهي تحمل بين بيدها طفلا رضيعا. فسأل من أين جاء هذا الرضيع؟ فحدثوه بأمر الصندوق. فقال بقلب لا يعرف الرحمة: لابد أنه أحد أطفال بني إسرائيل. أليس المفروض أن يقتل أطفال هذه السنة؟

فذكّرت آسيا -امرأة فرعون- زوجها بعدم قدرتهم على وطلبت منه أن يسمح لها بتربيته. سمح لها بذلك.

عاد موسى للبكاء من الجوع. فأمرت بإحضار المراضع. فحضرت مرضعة من القصر وأخذت موسى لترضعه فرفض أن يرضع منها. فحضرت مرضعة ثانية وثالثة وعاشرة وموسى يبكي ولا يريد أن يرضع. فاحتارت زوجة فرعون ولم تكن تعرف ماذا تفعل.

لم تكن زوجة فرعون هي وحدها الحزينة الباكية بسبب رفع موسى لجميع المراضع. فلقد كانت أم موسى هي الأخرى حزينة باكية. لم تكد ترمي موسى في النيل حتى أحست أنها ترمي قلبها في النيل. غاب الصندوق في مياه النيل واختفت أخباره. وجاء الصباح على أم موسى فإذا قلبها فارغ يذوب حزنا على ابنها، وكادت تذهب إلى قصر فرعون لتبلغهم نبأ ابنها وليكن ما يكون. لولا أن الله تعالى ربط على قلبها وملأ بالسلام نفسها فهدأت واستكانت وتركت أمر ابنها لله. كل ما في الأمر أنها قالت لأخته: اذهبي بهدوء إلى المدينة وحاولي أن تعرفي ماذا حدث لموسى.

وذهبت أخت موسى بهدوء ورفق إلى جوار قصر فرعون، فإذا بها تسمع القصة الكاملة. رأت موسى من بعيد وسمعت بكاءه، ورأتهم حائرين لا يعرفون كيف يرضعونه، سمعت أنه يرفض كل المراضع. وقالت أخت موسى لحرس فرعون: هل أدلكم على أهل بيت يرضعونه ويكفلونه ويهتمون بأمره ويخدمونه؟

ففرحت زوجة فرعون كثيرا لهذا الأمر، وطلبت منها أن تحضر المرضعة. وعادت أخت موسى وأحضرت أمه. وأرضعته أمه فرضع. وتهللت زوجة فرعون وقالت: "خذيه حتى تنتهي فترة رضاعته وأعيديه إلينا بعدها، وسنعطيك أجرا عظيما على تربيتك له". وهكذا رد الله تعالى موسى لأمه كي تقر عينها ويهدأ قلبها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق وأن كلماته سبحانه تنفذ رغم أي شيء. ورغم كل شيء.

نشأة موسى في بيت فرعون:أتمت أم موسى رضاعته وأسلمته لبيت فرعون. كان موضع حب الجميع. كان لا يراه أحد إلا أحبه. وها هو ذا في أعظم قصور الدنيا يتربى بحفظ الله وعنايته. بدأت تربية موسى في بيت فرعون. وكان هذا البيت يضم أعظم المربين والمدرسين في ذلك الوقت. كانت مصر أيامها أعظم دولة في الأرض. وكان فرعون أقوى ملك في الأرض، ومن الطبيعي أن يضم قصره أعظم المدربين والمثقفين والمربين في الأرض. وهكذا شاءت حكمة الله تعالى أن يتربى موسى أعظم تربية وأن يتعهده أعظم المدرسين، وأن يتم هذا كله في بيت عدوه الذي سيصطدم به فيما بعد تنفيذا لمشيئة الخالق.

وكبر موسى في بيت فرعون. كان موسى يعلم أنه ليس ابنا لفرعون، إنما هو واحد من بني إسرائيل. وكان يرى كيف يضطهد رجال فرعون وأتباعه بني إسرائيل.. وكبر موسى وبلغ أشده.. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) وراح يتمشى فيها. فوجد رجلا من اتباع فرعون وهو يقتتل مع رجل من بني إسرائيل، واستغاث به الرجل الضعيف فتدخل موسى وأزاح بيده الرجل الظالم فقتله. كان موسى قويا جدا، ولم يكن يقصد قتل الظالم، إنما أراد إزاحته فقط، لكن ضربته هذه قتلته. ففوجئ موسى به وقد مات وقال لنفسه: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ). ودعا موسى ربه: (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي). وغفر الله تعالى له، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

أصبح موسى (فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ). كان هذا حال موسى، حال إنسان مطارد، فهو خائف، يتوقع الشر في كل خطوة، وهو مترقب، يلتفت لأوهى الحركات وأخفاها.

ووعد موسى بأن لا يكون ظهيرا للمجرمين. لن يتدخل في المشاجرات بين المجرمين والمشاغبين ليدافع عن أحد من قومه. وفوجئ موسى أثناء سيره بنفس الرجل الذي أنقذه بالأمس وهو يناديه ويستصرخه اليوم. كان الرجل مشتبكا في عراك مع أحد المصريين. وأدرك موسى بأن هذا الإسرائيلي مشاغب. أدرك أنه من هواة المشاجرات. وصرخ موسى في الإسرائيلي يعنفه قائلا: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ). قال موسى كلمته واندفع نحوهما يريد البطش بالمصري. واعتقد الإسرائيلي أن موسى سيبطش به هو. دفعه الخوف من موسى إلى استرحامه صارخا، وذكّره بالمصري الذي قتله بالأمس. فتوقف موسى، سكت عنه الغضب وتذكر ما فعله بالأمس، وكيف استغفر وتاب ووعد ألا يكون نصيرا للمجرمين. استدار موسى عائدا ومضى وهو يستغفر ربه.

وأدرك المصري الذي كان يتشاجر مع الإسرائيلي أن موسى هو قاتل المصري الذي عثروا على جثته أمس. ولم يكن أحد من المصررين يعلم من القاتل. فنشر هذا المصري الخبر في أرجاء المدينة. وانكشف سر موسى وظهر أمره. وجاء رجل مصري مؤمن من أقصى المدينة مسرعا. ونصح موسى بالخروج من مصر، لأن المصريين ينوون قلته.

لم يذكر القرآن الكريم اسم الرجل الذي جاء يحذر موسى. ونرجح أنه كان رجلا مصريا من ذوي الأهمية، فقد اطلع على مؤامرة تحاك لموسى من مستويات عليا، ولو كان شخصية عادية لما عرف. يعرف الرجل أن موسى لم يكن يستحق القتل على ذنبه بالأمس.. لقد قتل الرجل خطأ. فيجب أن تكون عقوبته السجن على أقصى تقدير.

لكن رؤساء القوم وعليتهم، الذين يبدوا أنهم كانوا يكرهون موسى لأنه من بني إسرائيل، ولأنه نجى من العام الذي يقتل فيه كل مولود ذكر، وجدوا هذه الفرصة مناسبة للتخلص من موسى، فهو قاتل المصري، لذا فهو يستحق القتل.

خرج موسى من مصر على الفور. خائفا يتلفت ويتسمع ويترقب. في قلبه دعاء لله (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). وكان القوم ظالمين حقا. ألا يريدون تطبيق عقوبة القتل العمد عليه، وهو لم يفعل شيئا أكثر من أنه مد يده وأزاح رجلا فقتله خطأ؟

خرج موسى من مصر على عجل. لم يذهب إلى قصر فرعون ولم يغير ملابسه ولم يأخذ طعاما للطريق ولم يعد للسفر عدته. لم يكن معه دابة تحمله على ظهرها وتوصله. ولم يكن في قافلة. إنما خرج بمجرد أن جاءه الرجل المؤمن وحذره من فرعون ونصحه أن يخرج. اختار طريقا غير مطروق وسلكه. دخل في الصحراء مباشرة واتجه إلى حيث قدرت له العناية الإلهية أن يتجه. لم يكن موسى يسير قاصدا مكانا معينا. هذه أول مرة يخرج فيها ويعبر الصحراء وحده.

موسى في مدين:

ظل يسير بنفسية المطارد حتى وصل إلى مكان. كان هذا المكان هو مدين. جلس يرتاح عند بئر عظيمة يسقي الناس منها دوابهم. وكان خائفا طوال الوقت أن يرسل فرعون من وراءه من يقبض عليه.

لم يكد موسى يصل إلى مدين حتى ألقى بنفسه تحت شجرة واستراح. نال منه الجوع والتعب، وسقطت نعله بعد أن ذابت من مشقة السير على الرمال والصخور والتراب. لم تكن معه نقود لشراء نعل جديدة. ولم تكن معه نقود لشراء طعام أو شراب. لاحظ موسى جماعة من الرعاة يسقون غنمهم، ووجد امرأتين تكفان غنمهما أن يختلطا بغنم القوم، أحس موسى بما يشبه الإلهام أن الفتاتين في حاجة إلى المساعدة. تقدم منهما وسأل هل يستطيع أن يساعدهما في شيء.

قالت إحداهما: نحن ننتظر أن ينتهي الرعاة من سقي غنمهم لنسقي.
سأل موسى: ولماذا لا تسقيان؟
قالت الأخرى: لا نستطيع أن نزاحم الرجال.
اندهش موسى لأنهما ترعيان الغنم. المفروض أن يرعى الرجال الأغنام. هذه مهمة شاقة ومتعبة وتحتاج إلى اليقظة.
سأل موسى: لماذا ترعيان الغنم؟
فقالت واحدة منهما: أبونا شيخ كبير لا تساعده صحته على الخروج كل يوم للرعي.
فقال موسى: سأسقي لكما.

سار موسى نحو الماء. وسقى لهم الغنم مع بقية الرعاة. وفي رواية أن أن الرعاة قد وضعوا على فم البئر بعد أن انتهوا منها صخرة ضخمة لا يستطيع أن يحركها غير عدد من الرجال. فرفع موسى الصخرة وحده. وسقى لهما الغنم وأعاد الصخرة إلى مكانها، وتركهما وعاد يجلس تحت ظل الشجرة. وتذكر لحظتها الله وناداه في قلبه: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).
عادت الفتاتان إلى أبيهما الشيخ.

سأل الأب: عدتما اليوم سريعا على غير العادة؟!
قالت إحداهما: تقابلنا مع رجل كريم سقى لنا الغنم.
فقال الأب لابنته: اذهبي إليه وقولي له: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ليعطيك (أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).

ذهبت واحدة من الفتاتين إلى موسى، ووقفت أمامه وأبلغته رسالة أبيها. فنهض موسى وبصره في الأرض. إنه لم يسق لهما الغنم ليأخذ منهن أجرا، وإنما ساعدهما لوجه الله، غير أنه أحس في داخله أن الله هو الذي يوجه قدميه فنهض. سارت البنت أمامه. هبت الرياح فضربت ثوبها فخفض موسى بصره حياء وقال لها: سأسير أنا أمامك ونبهيني أنت إلى الطريق.

وصلا إلى الشيخ. قال بعض المفسرين إن هذا الشيخ هو النبي شعيب. عمر طويلا بعد موت قومه. وقيل إنه ابن أخي شعيب. وقيل ابن عمه، وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب الذين آمنوا به. لا نعرف أكثر من كونه شيخا صالحا.

قدم له الشيخ الطعام وسأله: من أين قدم وإلى أين سيذهب؟ حدثه موسى عن قصته. قال الشيخ: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). هذه البلاد لا تتبع مصر، ولن يصلوا إليك هنا. اطمأن موسى ونهض لينصرف.

قالت ابنة الشيخ لأبيها همسا: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).سألها الأب: كيف عرفت أنه قوي؟
قالت: رفع وحده صخرة لا يرفعها غير عدد رجال.
سألها: وكيف عرفت أنه أمين؟
قالت: رفض أن يسير خلفي وسار أمامي حتى لا ينظر إلي وأنا أمشي. وطوال الوقت الذي كنت أكلمه فيه كان يضع عينيه في الأرض حياء وأدبا.

وعاد الشيخ لموسى وقال له: أريد يا موسى أن أزوجك إحدى ابنتي على أن تعمل في رعي الغنم عندي ثماني سنوات، فإن أتممت عشر سنوات، فمن كرمك، لا أريد أن أتعبك، (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). قال موسى: هذا اتفاق بيني وبينك. والله شاهد على اتفاقنا. سواء قضيت السنوات الثمانية، أو العشر سنوات فأنا حر بعدها في الذهاب.

يخوض الكثيرون في تيه من الأقاصيص والروايات، حول أي ابنتي الشيخ تزوج، وأي المدتين قضى. والثابت أن موسى تزوج إحدى ابنتي الشيخ. لا نعرف من كانت، ولا ماذا كان اسمها. وهذه الأمور سكت عنها السياق القرآني. إلا أنه استنادا إلى طبيعة موسى وكرمه ونبوته وكونه من أولي العزم. نرى أنه قضى الأجل الأكبر. وهذا ما يؤكده حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وهكذا عاش موسى يخدم الشيخ عشر سنوات كاملة.

موسى ورعي الغنم:

وكان عمل موسى ينحصر في الخروج مع الفجر كل يوم لرعي الأغنام والسقاية لها.

ولنقف هنا وقفة تدبر. إن قدرة الإلهية نقلت خطى موسى -عليه السلام- خطوة بخطوة. منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه اللحظة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه محبة زوجة فرعون لينشأ في كنف عدوّه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل نفسا. وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج من مصر. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد من غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف.

هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه، قبل النداء والتكليف. تجربة الرعاية والحب والتدليل. تجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس، وتجربة الندم والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة. وتجربة الغربة والوحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورغي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من تجارب صغيرة، ومشاعر وخواطر، وإدراك ومعرفة. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.

إن الرسالة تكليف ضخم شاق، يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة، إلى جانب وحي الله وتوجيهه. ورسالة موسى تكليف عظيم، فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر، أعتى ملوك الأرض في زمانه، وأشدهم استعلاء في الأرض. وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.

فتجربة السنوات العشر جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى -عليه السلام- وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة. فلحياة القصور جوا وتقاليد خاصة. أما الرسالة فهي معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير، المهذب والخشن، القوي والضعيف، وفيهم وفيهم. وللرسالة تكاليفها من المشقة ومن التجرد أحيانا، وقلوب أهل القصور في الغالب لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة.

فلما استكملت نفس موسى -عليه السلام- تجاربها، وأكملت مرانها، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغرة. قادت القدرة الإلهية خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه، ومقر أهله وقومه، ومجال عمله. وهكذا نرى كيف صُنِعَ موسى على عين الله، وكيف تم إعداده لتلقي التكليف.

عودة موسى لمصر:

ترى أي خاطر راود موسى، فعاد به إلى مصر، بعد انقضاء الأجل، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها، وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟

إنها قدرة الله التي تنقل خطاه كلها. لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة والوطن. وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها.

خرج موسى مع أهله وسار. اختفى القمر وراء أسراب من السحاب الكثيف وساد الظلام. اشتد البرق والرعد وأمطرت السماء وزادت حدة البرد والظلام. وتاه موسى أثناء سيره. ووقف موسى حائرا يرتعش من البرد وسط أهله.. ثم رفع رأسه فشاهد نارا عظيمة تشتعل عن بعد. امتلأ قلبه بالفرح فجأة. قال لأهله: أني رأيت نارا هناك.

أمرهم أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب إلى النار لعله يأتيهم منها بخبر، أو يجد أحدا يسأله عن الطريق فيهتدي إليه، أو يحضر إليهم بعض أخشابها المشتعلة لتدفئتهم.

وتحرك موسى نحو النار. سار موسى مسرعا ليدفئ نفسه. يده اليمنى تمسك عصاه. جسده مبلل من المطر. ظل يسير حتى وصل إلى واد يسمونه طوى. لاحظ شيئا غريبا في هذا الوادي. لم يكن هناك برد ولا رياح. ثمة صمت عظيم ساكن. واقترب موسى من النار. لم يكد يقترب منها حتى نودي: (أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).نظر موسى في النار فوجد شجرة خضراء. كلما زاد تأجج النار زادت خضرة الشجرة. والمفروض أن تتحول الشجرة إلى اللون الأسود وهي تحترق. لكن النار تزيد واللون الأخضر يزيد. كانت الشجرة في جبل غربي عن يمينه، وكان الوادي الذي يقف فيه هو وادي طوى.

ثم ارتجت الأرض بالخشوع والرهبة والله عز وجل ينادي: يَا مُوسَى

فأجاب موسى: نعم.

قال الله عز وجل: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ

ازداد ارتعاش موسى وقال: نعم يا رب.

قال الله عز وجل: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى

انحنى موسى راكعا وجسده كله ينتفض وخلع نعليه.

عاد الحق سبحانه وتعالى يقول: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) (طه)
زاد انتفاض جسد موسى وهو يتلقى الوحي الإلهي ويستمع إلى ربه وهو يخاطبه.

قال الرحمن الرحيم: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى

ازدادت دهشة موسى. إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخاطبه، والله يعرف أكثر منه أنه يمسك عصاه. لماذا يسأله الله إذن إذا كان يعرف أكثر منه؟! لا شك أن هناك حكمة عليا لذلك.

أجاب موسى: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى

قال الله عز وجل: أَلْقِهَا يَا مُوسَى

رمى موسى العصا من يده وقد زادت دهشته. وفوجئ بأن العصا تتحول فجأة إلى ثعبان عظيم الحجم هائل الجسم. وراح الثعبان يتحرك بسرعة. ولم يستطع موسى أن يقاوم خوفه. أحس أن بدنه يتزلزل من الخوف. فاستدار موسى فزعا وبدأ يجري. لم يكد يجري خطوتين حتى ناداه الله: يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.

عاد موسى يستدير ويقف. لم تزل العصا تتحرك. لم تزل الحية تتحرك.

قال الله سبحانه وتعالى لموسى: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى

مد موسى يده للحية وهو يرتعش. لم يكد يلمسها حتى تحولت في يده إلى عصا. عاد الأمر الإلهي يصدر له: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ

وضع موسى يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تتلألأ كالقمر. زاد انفعال موسى بما يحدث، وضع يده على قلبه كما أمره الله فذهب خوفه تماما..

اطمأن موسى وسكت. وأصدر الله إليه أمرا بعد هاتين المعجزتين -معجزة العصا ومعجزة اليد- أن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى الله برفق ولين، ويأمره أن يخرج بني إسرائيل من مصر. وأبدى موسى خوفه من فرعون. قال إنه قتل منهم نفسا ويخاف أن يقتلوه. توسل إلى الله أن يرسل معه أخاه هارون. طمأن الله موسى أنه سيكون معهما يسمع ويرى، وأن فرعون رغم قسوته وتجبره لن يمسهما بسوء. أفهم الله موسى أنه هو الغالب. ودعا موسى وابتهل إلى الله أن يشرح له صدره وييسر أمره ويمنحه القدرة على الدعوة إليه. ثم قفل موسى راجعا لأهله بعد اصطفاء الله واختياره رسولا إلى فرعون. انحدر موسى بأهله قاصدا مصر.

يعلم الله وحده أي أفكار عبرت ذهن موسى وهو يحث خطاه قاصدا مصر. انتهى زمان التأمل، وانطوت أيام الراحة، وجاءت الأوقات الصعبة أخيرا، وها هو ذا موسى يحمل أمانة الحق ويمضي ليواجه بها بطش أعظم جبابرة عصره وأعتاهم. يعلم موسى أن فرعون مصر طاغية. يعلم أنه لن يسلمه بني إسرائيل بغير صراع. يعلم أنه سيقف من دعوته موقف الإنكار والكبرياء والتجاهل. لقد أمره الله تعالى أن يذهب إلى فرعون. أن يدعوه بلين ورفق إلى الله. أوحى الله لموسى أن فرعون لن يؤمن. ليدعه موسى وشأنه. وليركز على إطلاق سراح بني إسرائيل والكف عن تعذيبهم. قال تعالى لموسى وهارون: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ). هذه هي المهمة المحددة. وهي مهمة سوف تصطدم بآلاف العقبات. إن فرعون يعذب بني إسرائيل ويستعبدهم ويكلفهم من الأعمال ما لا طاقة لهم به، ويستحيي نسائهم، ويذبح أبنائهم، ويتصرف فيهم كما لو كانوا ملكا خاصا ورثه مع ملك مصر. يعلم موسى أن النظام المصري يقوم في بنيانه الأساسي على استعباد بني إسرائيل واستغلال عملهم وجهدهم وطاقاتهم في الدولة، فهل يفرط الفرعون في بناء الدولة الأساسي ببساطة ويسر؟ ذهبت الأفكار وجاءت، فاختصرت مشقة الطريق. ورفع الستار عن مشهد المواجهة.

................................................

هكذا انتهى الجزء الاول ولنا عودة باذن الله مع الجزء الثاني
ץمْ ـنَآدِيץ غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-26-2008, 10:08 AM   #8

ץمْ ـنَآدِيץ
عيوني ماسي
 
الصورة الرمزية ץمْ ـنَآدِيץ

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 2077
التسِجيلٌ : Oct 2007
مشَارَڪاتْي : 8,580
 نُقآطِيْ » ץمْ ـنَآدِيץ is on a distinguished road
افتراضي موسى عليه السلام - الجزء الثاني-

مواجهة فرعون:

واجه موسى فرعون بلين ورفق كما أمره الله. وحدثه عن الله. عن رحمته وجنته. عن وجوب توحيده وعبادته. حاول إيقاظ جوانبه الإنسانية في الحديث. ألمح إليه أنه يملك مصر، ويستطيع لو أراد أن يملك الجنة. وكل ما عليه هو أن يتقي الله. استمع فرعون إلى حديث موسى ضجرا شبه هازئ وقد تصوره مجنونا تجرأ على مقامه السامي. ثم سأل فرعون موسى ماذا يريد. فأجاب موسى أنه يريد أن يرسل معه بني إسرائيل.

ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى العظيمة، ويطلب إليه ذلك الطلب الكبير. فآخر عهد فرعون بموسى أنهم ربوه في قصره بعد أن التقطوا تابوته. وأنه هرب بعد قتله للقبطي الذي وجده يتعارك مع الإسرائيلي. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى إذن وهذه الدعوى العظيمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين! ومن ثم بدأ فرعون يذكره بماضيه. يذكره بتربيته له فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا وأنت وليد؟ لتأتي الآن لتخالف ديانتنا، وتخرج على الملك الذي تربيت في قصره، وتدعوا إلى إله غيره؟!

ويذكره بحادث مقتل القبطي في تهويل وتجسيم. فلا يتحدث عنها بصريح العبارة وإنما يقول (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) فعلتك البشعة الشنيعة (وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) برب العالمين الذي تقول به اليوم، فأنت لم تكن وقتها تتحدث عن رب العالمين! لم تتحدث بشيء عن هذه الدعوى التي تدعيها اليوم؛ ولم تخطرنا بمقدمات هذا الأمر العظيم؟!

وظن فرعون أنه رد على موسى ردا لن يملك معه جوابا. إلا أن الله استجاب لدعاء موسى من قبل، فانطلق لسانه: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) فعلت تلك الفعلة وأنا بعد جاهل، أندفع اندفاع العصبية لقومي، لا اندفاع العقيدة التي عرفتها اليوم بما أعطاني ربي من الحكة. (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) على نفسي. فقسم الله لي الخير فوهب لي الحكمة (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ويكمل موسى خطابه لفرعون بنفس القوة: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) فما كانت تربيتي في بيتك وليدا إلا من جراء استعبادك لبني إسرائيل، وقتل أبنائهم، مما دفع أمي لوضعي في التابوت وإلقاءه في اليم، فتلتقطه فأتربى في بيتك، لا في بيت أبويّ. فهل هذا هو ما تمنه علي، وهل هذا هو فضلك العظيم؟!

عند هذا الحد تدخل الفرعون في الحديث.. قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ
قال موسى: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ
التفت فرعون لمن حوله وقال هازئا: أَلَا تَسْتَمِعُونَ
قال موسى متجاوزا سخرية الفرعون: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ
قال فرعون مخاطبا من جاءوا مع موسى من بني إسرائيل: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ
عاد موسى يتجاوز اتهام الفرعون وسخريته ويكمل: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ

نلاحظ أن فرعون لم يكن يسأل موسى عن رب العالمين أو رب موسى وهارون بقصد السؤال البريء والمعرفة. إنما كان يهزأ. ولقد أجابه موسى إجابة جامعة مانعة محكمة (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). هو الخالق. خالق الأجناس جميعا والذوات جميعا. وهو هاديها بما ركب في فطرتها وجبلتها من خواص تهديها لأسباب عيشها. وهو الموجه لها على أي حال. وهو القابض على ناصيتها في كل حال. وهو العليم بها والشاهد عليها في جميع الأحوال.

لم تؤثر هذه العبارة الرائعة والموجزة في فرعون. وها هو ذا يسأل: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) لم تعبد ربك هذا؟

لم يزل فرعون ماضيا في استكباره واستهزائه. ويرد موسى ردا يستلفته إلى أن القرون الأولى التي لم تعبد الله، والتي عبدته معا، لن تترك بغير مساءلة وجزاء. كل شيء معلوم عند الله تعالى. هذه القرون الأولى (عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ). أحصى الله ما عملوه في كتاب. (لَّا يَضِلُّ رَبِّي). أي لا يغيب عنه شيء. (وَلَا يَنسَى). أي لا يغيب عن شيء. ليطمئن الفرعون بالا من ناحية القرون الأولى والأخيرة وما بينهما. إن الله يعرف كل شيء ويسجل عليها ما عملته ولا يضيع شيئا من أجورهم.

ثم استلفت موسى نظر فرعون إلى آيات الله في الكون. ودار به مع حركة الرياح والمطر والنبات وأوصله مرة ثانية إلى الأرض، وهناك افهمه أن الله خلق الإنسان من الأرض، وسيعيده إليها بالموت، ويخرجه منها بالبعث، إن هناك بعثا إذن. وسيقف كل إنسان يوم القيامة أمام الله تعالى. لا استثناء لأحد. سيقف كل عباد الله وخلقه أمامه يوم القيامة. بما في ذلك الفرعون. بهذا جاء موسى مبشرا ومنذرا.

لم يعجب فرعون هذا النذير، وتصاعد الحوار بينه وبين موسى. فالطغيان لا يخشى شيئا كخشيته يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحدا كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية. لذلك هاج فرعون على موسى وثار، وأنهى الحوار معه بالتهديد الصريح. وهذا هو سلاح الطغاة عندما يفتقرون للحج والبراهين والمنطق: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).

إلا أن موسى -عليه السلام- لم يفقد رباطة جأشه. كيف يفقدها وهو رسول الله، والله معه ومع أخيه؟ وبدأ الإقناع بأسلوب جديد، وهو إظهار المعجزة (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ) فهو يتحدى فرعون، ويحرجه أمام ملأه، فلو رفض فرعون الإصغاء، سيظهر واضحا أنه خائف من حجة موسى (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
ألقى موسى عصاه في ردهة القصر العظيمة. لم تكد العصا تلمس الأرض حتى تحولت إلى ثعبان هائل يتحرك بسرعة. ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فإذا هي بيضاء كالقمر.

تحدي السحرة:

وتبدأ الجولة الثانية بين الحق والباطل. حيث شاور فرعون الملأ من حوله فيما يجب فعله. والملأ لهم مصلحة في أن تبقى الأمور على ما هي عليه، فهم مقربون من فرعون، ولهم نفوذ وسلطان. فأشاروا أن يرد على سحر موسى بسحر مثله، فيجمع السحرة لتحدي موسى وأخاه.

حدد الميقات، وهو يوم الزينة. وبدأت حركة إعداد الجماهير وتحميسهم فدعوهم للتجمع وعدم التخلف عن الموعد، ليراقبوا فوز السحرة وغلبتهم على موسى الإسرائيلي! والجماهير دائما تتجمع لمثل هذه الأمور.

أما السحرة، فقد ذهبوا لفرعون ليطمئنون على الأجر والمكافأة إن غلبوا موسى. فهم جماعة مأجورة، تبذل مهارتها مقابل الأجر الذي تنتظره؛ ولا علاقة لها بعقيدة ولا صلة لها بقضية، ولا شيء سوى الأجر والمصلحة. وهم هم ألاء يستوثقون من الجزاء على تعبهم ولعبهم وبراعتهم في الخداع. وها هو ذا فرعون يعدهم بما هو أكثر من الأجر. يعدهم أن يكونوا من المقربين إليه. وهو بزعمه الملك والإله!

وفي ساحة المواجهة. والناس مجتمعون، وفرعون ينظر. حضر موسى وأخاه هارون عليهما السلام، وحضر السحرة وفي أيديهم كل ما أتقنوه من ألعاب وحيل، وكلهم ثقة بفوزهم في هذا التحدي. لذا بدءوا بتخيير موسى: (إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) وتتجلى ثقة موسى -عليه السلام- في الجانب الآخر واستهانته بالتحدي (بَلْ أَلْقُوا) فرمى السحرة عصيهم وحبالهم بعزة فرعون (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ).
رمى السحرة بعصيهم وحبالهم فإذا المكان يمتلئ بالثعابين فجأة (سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). وحسبنا أن يقرر القرآن الكريم أنه سحر عظيم (وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ)، لندرك أي سحر كان. وحسبنا أن نعلم أنهم (سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ) وأثاروا الرهبة في قلوبهم (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) لنتصور أي سحر كان. فنظر موسى عليه السلام إلى حبال السحرة وعصيهم وشعر بالخوف.

في هذه اللحظة، يذكّره ربّه بأن معه القوة الكبرى. فهو الأعلى. ومعه الحق، أما هم فمعهم الباطل. معه العقيدة ومعهم الحرفة. معه الإيمان بصدق الذي دفعه لما هو فيه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة. موسى متصل بالقوة الكبرى والسحرة يخدمون مخلوقا بشريا فانيا مهما يكن طاغية جبارا.

لا تخف (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) وستهزمهم، فهو سحر من تدبير ساحر وعمله. والساحر لا يفلح أنى ذهب وفي أي طريق سار، لأنه يعتمد على الخيال والإيهام والخداع، ولا يعتمد على حقيقة ثابتة باقية.

اطمأن موسى ورفع عصاه وألقاها. لم تكد عصا موسى تلامس الأرض حتى وقعت المعجزة الكبرى. وضخامة المعجزة حولت مشاعر ووجدان السحرة، الذين جاءوا للمباراة وهم أحرص الناس على الفوز لنيل الأجر. الذي بلغت براعتهم لحد أن يشعر موسى بالخوف من عملهم. تحولت مشاعرهم بحيث لم يسعفهم الكلام للتعبير: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى).

إنه فعل الحق في الضمائر. ونور الحق في المشاعر، ولمسة الحق في القلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين. إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه. وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى. فهم أعلم إن كان هذا من عمل بشر أو ساحر، أو أنه من القدرة التي تفوق قدرة البشر والسحر. والعالم في فنه هو أكثر الناس استعدادا للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له، لأنه أقرب إدراكا لهذه الحقيقة، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور. ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق، الذي يجددون برهانه في أنفسهم عن يقين.

هزت هذه المفاجأة العرش من تحته. مفاجأة استسلام السحرة -وهم من كهنة المعابد- لرب العالمين. رب موسى وهارون. بعد أن تم جمعهم لإبطال دعوة موسى وهارون لرب العالمين! ولأن العرش والسلطان أهم شيء في حيات الطواغيت، فهم مستعدون لارتكاب أي جريمة في سبيل المحافظة عليهما.

تسائل فرعون مستغربا (آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ) كأنما كان عليهم أن يستأذنوه في أن يعودوا للحق. لكنه طاغية متكبر متجبر أعمى السلطان عينيه عن الحق. ويزيد في طغيانه فيقول (إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا) إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، وهو يعلم وكل من له عقل أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل. ويظل الطاغية يتهدد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ويتوعد (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) لكن النفس البشرية حين تستيقن حقيقة الإيمان، تستعلي على قوة الأرض، وتستهين ببأس الطغاة، وتنتصر فيها العقيدة على الحياة, وتختار الخلود الدائم على الحياة الفانية. (قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ) إنه الإيمان الذي لا يتزعزع ولا يخضع.

ويعلن السحرة حقيقة المعركة (وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا) فلا يطلبون الصفح والعفو من عدوّهم، إنما يطلبون الثبات والصبر من ربهم (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِين). فيقف الطغيان عاجزا أما هذا الوعي وهذا الاطمئنان. عاجزا عن رد هؤلاء المؤمنين لطريق الباطل من جديد. فينفذ تهديده، ويصلبهم على جذوع النخل.

التآمر على موسى ومن آمن معه:

وتبدأ جولة جديدة بين الحق والباطل. فهاهم علية القوم من المصريين، يتآمرون ويحرضون فرعون ويهيجونه على موسى ومن آمن معه، ويخوّفونه من عاقبة التهاون معهم. وهم يرون الدعوة إلى ربوبية الله وحدة إفسادا في الأرض. حيث يترتب عليها بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله. وقد كان فرعون يستمد قوته من ديانتهم الباطلة، حيث كان فرعون ابن الآلهة. فإن عبد موسى ومن معه الله رب العالمين، لن تكون لفرعون أي سطوة عليهم. فاستثارت هذه الكلمات فرعون، وأشعرته بالخطر الحقيقي على نظامه كله ففكر بوحشيته المعتادة وقرر (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).لم يكن هذا التنكيل الوحشي جديدا على بني إسرائيل. فقد نُفِّذ عليهم هذا الحكم في إبان مولد موسى عليه السلام. فبدأ موسى -عليه السلام- يوصي قومه باحتمال الفتنة، والصبر على البلية، والاستعانة بالله عليها. وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. والعاقبة لمن يتقي الله ولا يخشى أحدا سواه (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

إلا أن قومه بدءوا يشتكون من العذاب الذي حل بهم (قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) إنها كلمات ذات ظل! وإنها لتشي بما وراءها من تبرم! أوذينا قبل مجيئك وما تغير شيء بمجيئك. وطال هذا الأذى حتى ما تبدو له نهاية! فيمضي النبي الكريم على نهجه. يذكرهم بالله، ويعلق رجاءهم به، ويلوح لهم بالأمل في هلاك عدوهم. واستخلافهم في الأرض. مع التحذير من فتنة الاستخلاف، فاستخلاف الله لهم إنما هو ابتلاء لهم، فهو استخلاف للامتحان: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).وينقلنا القرآن الكريم إلى فصل آخر من قصة موسى عليه السلام. ومشهد آخر من مشاهد المواجهة بين الحق والباطل. حيث يحكي لما قصة تشاور فرعون مع الملأ في قتل موسى. (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) أما موسى عليه السلام فالتجأ إلى الركن الركين، والحصن الحصين، ولاذ بحامي اللائذين، ومجير المستجيرين (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ).موقف الرجل المؤمن من آل فرعون:

كادت فكرة فرعون أن تحصل على التصديق لولا رجل من آل فرعون. رجل من رجال الدولة الكبار، لا يذكر القرآن اسمه، لأن اسمه لا يهم، لم يذكر صفته أيضا لأن صفته لا تعني شيئا، إنما ذكر القرآن أنه رجل مؤمن. ذكره بالصفة التي لا قيمة لأي صفة بعدها.

تحدث هذا الرجل المؤمن، وكان (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)، تحدث في الاجتماع الذي طرحت فيه فكرة قتل موسى وأثبت عقم الفكرة وسطحيتها. قال إن موسى لم يقل أكثر من أن الله ربه، وجاء بعد ذلك بالأدلة الواضحة على كونه رسولا، وهناك احتمالان لا ثالث لهما: أن يكون موسى كاذبا، أو يكون صادقا، فإذا كان كاذبا (فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ)، وهو لم يقل ولم يفعل ما يستوجب قتله. وإذا كان صادقا وقتلناه، فما هو الضمان من نجاتنا من العذاب الذي يعدنا به؟

تحدث المؤمن الذي يكتم إيمانه فقال لقومه: إننا اليوم في مراكز الحكم والقوة. من ينصرنا من بأس الله إذا جاء؟ ومن ينقذنا من عقوبته إذا حلت؟ إن إسرافنا وكذبنا قد يضيعاننا.

وبدت كلماته مقنعة. إنه رجل ليس متهما في ولائه لفرعون. وهو ليس من أتباع موسى. والمفروض أنه يتكلم بدافع الحرص على عرش الفرعون. ولا شيء يسقط العروش كالكذب والإسراف وقتل الأبرياء.

ومن هذا الموضع استمدت كلمات الرجل المؤمن قوتها. بالنسبة إلى فرعون ووزرائه ورجاله. ورغم أن فرعون وجد فكرته في قتل موسى، صريعة على المائدة. رغم تخويف الرجل المؤمن لفرعون. رغم ذلك قال الفرعون كلمته التاريخية التي ذهبت مثلا بعده لكل الطغاة: (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).هذه كلمة الطغاة دائما حين يواجهون شعوبهم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى). هذا رأينا الخاص، وهو رأي يهديكم سبيل الرشاد. وكل رأي غيره خاطئ. وينبغي الوقوف ضده واستئصاله.

لم تتوقف المناقشة عند هذا الحد. قال فرعون كلمته ولكنه لم يقنع بها الرجل المؤمن. وعاد الرجل المؤمن يتحدث وأحضر لهم أدلة من التاريخ، أدلة كافية على صدق موسى. وحذّرهمخ من المساس به. لقد سبقتهم أمم كفرت برسلها، فأهلكها الله: قوم نوح، قوم عاد، قوم ثمود.

ثم ذكّرهم بتاريخ مصر نفسه. ذكّرهم بيوسف عليه السلام حين جاء بالبينات، فشك فيه الناس ثم آمنوا به بعد أن كادت النجاة تفلت منهم، ما الغرابة في إرسال الله للرسل؟ إن التاريخ القديم ينبغي أن يكون موضع نظر. لقد انتصرت القلة المؤمنة حين أصبحت مؤمنة على الكثرة الكافرة. وسحق الله تعالى الكافرين. أغرقهم بالطوفان، وصعقهم بالصرخة. أو خسف بهم الأرض. ماذا ننتظر إذن؟ ومن أين نعلم أن وقوفنا وراء الفرعون لن يضيعنا ويهلكنا جميعا؟

كان حديث الرجل المؤمن ينطوي على عديد من التحذيرات المخيفة. ويبدو أنه أقنع الحاضرين بأن فكرة قتل موسى فكرة غير مأمونة العواقب. وبالتالي فلا داعي لها.

إلا أن الطاغية فرعون حاول مرة أخرى المحاورة والتمويه، كي لا يواجه الحق جهرة، ولا يعترف بدعوة الوحدانية التي تهز عرشه. وبعيد عن احتمال أن يكون هذا فهم فرعون وإدراكه. فطلب أن يبنى له بناء عظيم، يصعد عليه ليرى إله موسى الذي يدعيه. وبعيدا أن يكون جادا في البحث عن إله موسى على هذا النحو المادي الساذج. وقد بلغ فراعنة مصر من الثقافة حدا يبعد معه هذا التصور. وإنما هو الاستهتار والسخرية من جهة. والتظاهر بالإنصاف والتثبت من جهة أخرى.

بعد هذا الاستهتار، وهذا الإصرار، ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة:

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) (غافر)

أنهى الرجل المؤمن حديثه بهذه الكلمات الشجاعة. بعدها انصرف. انصرف فتحول الجالسون من موسى إليه. بدءوا يمكرون للرجل المؤمن. بدءوا يتحدثون عما صدر منه. فتدخلت عناية الله تعالى (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) وأنجته من فرعون وجنوده.

ابتلاء الله أهل مصر:

أما حال مصر في تلك الفترة. فلقد مضى فرعون في تهديده، فقتل الرجال واستحيا النساء. وظل موسى وقومه يحتملون العذاب، ويرجون فرج الله، ويصبرون على الابتلاء. وظل فرعون في ظلاله وتحدّيه. فتدخلت قوة الله سبحانه وتعالى، وشاء الله تعالى أن يشدد على آل فرعون. ابتلاء لهم وتخويفا، ولكي يصرفهم عن الكيد لموسى ومن آمن معه، وإثباتا لنبوة موسى وصدقه في الوقت نفسه. وهكذا سلط على المصريين أعوام الجدب. أجدبت الأرض وشح النيل ونقصت الثمار وجاع الناس، واشتد القحط. لكن آل فرعون لم يدركوا العلاقة بين كفرهم وفسقهم وبين بغيهم وظلمهم لعباد الله. فأخذوا يعللون الأسباب. فعندما تصيبهم حسنة، يقولون إنها من حسن حظهم وأنهم يستحقونها. وإن أصابتهم سيئة قالوا هي من شؤم موسى ومن معه عليهم، وأنها من تحت رأسهم!

وأخذتهم العزة بالإثم فاعتقدوا أن سحر موسى هو المسئول عما أصابهم من قحط. وصور لهم حمقهم أن هذا الجدب الذي أصاب أرضهم، آية جاء بها موسى ليسحرهم بها، وهي آية لن يؤمنوا بها مهما حدث.

فشدد الله عليهم لعلهم يرجعون إلى الله، ويطلقون بني إسرائيل ويرسلونهم معه. فأرسل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل -وهو السوس- والضفادع، والدم. ولا يذكر القرآن إن كانت جملة واحدة، أم واحدة تلو الأخرى. وتذكر بعض الروايات أنها جاءت متتالية وحدة تلو الأخرى. إلا أن المهم هو طلب آل فرعون من موسى أن يدعو لهم ربه لينقذهم من هذا البلاء. وبعدونه في كل مرة أن يرسلوا بني إسرائيل إذا أنجاهم ورفع عنهم هذا البلاء (قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ).

فكان موسى -عليه السلام- يدعو الله بأن يكشف عنهم العذاب. وما أن ينكشف البلاء حتى ينقضون عهدهم، ويعودون إلى ما كانوا فيه (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ).

لم يهتد المصريون، ولم يوفوا بعهودهم، بل على العكس من ذلك. خرج فرعون لقومه، وأعلن أنه إله. أليس له ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحته، أعلن أن موسى ساحر كذاب. ورجل فقير لا يرتدي أسورة واحدة من الذهب.

ويعبّر القرآن الكريم عن أمر فرعون وقومه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ). استخف بعقولهم. واستخف بحريتهم. واستخف بمستقبلهم. واستخف بآدميتهم. فأطاعوه. أليست هذه طاعة غريبة. تنمحي الغرابة حين نعلم أنهم كانوا قوما فاسقين. إن الفسق يصرف الإنسان عن الالتفات لمستقبله ومصالحه وأموره، ويورده الهلاك. وذلك ما وقع لقوم فرعون.

خروج بني إسرائيل من مصر:

بدا واضحا أن فرعون لن يؤمن لموسى. ولن يكف عن تعذيبه لبني إسرائيل، ولن يكف عن استخفافه بقومه. هنالك دعا موسى وهارون على فرعون.

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) (يونس)
لم يكن قد آمن مع موسى فريق من قومه. فانتهى الأمر، وأوحي إلى موسى أن يخرج من مصر مع بني إسرائيل. وأن يكور رحيلهم ليلا، بعد تدبير وتنظيم لأمر الرحيل. ونبأه أن فرعون سيتبعهم بجنده؛ وأمره أن يقوم قومه إلى ساحل البحر (وهو في الغالب عند التقاء خليج السويس بمطقة البحيرات).
وبلغت الأخبار فرعون أن موسى قد صحب قومه وخرج. فأرسل أوامره في مدن المملكة لحشد جيش عظيم. ليدرك موسى وقومه، ويفسد عليهم تدبيرهم. أعلن فرعون التعبئة العامة. وهذا من شأنه أن يشكل صورة في الأذهان، أن موسى وقومه يشكلون خطرا فعلى فرعون وملكه، فيكف يكون إلها من يخشى فئة صغيرا يعبدون إله آخر؟! لذلك كان لا بد من تهوين الأمر وذلك بتقليل شأن قوم موسى وحجمهم (إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) لكننا نطاردهم لأنهم أغاظونا، وعلى أي حال، فنحن حذرون مستعدون ممسكون بزمام الأمور.

وقف موسى أمام البحر. وبدا جيش الفرعون يقترب، وظهرت أعلامه. وامتلأ قوم موسى بالرعب. كان الموقف حرجا وخطيرا. إن البحر أمامهم والعدو ورائهم وليس معهم سفن أو أدوات لعبور البحر، كما ليست أمامهم فرصة واحدة للقتال. إنهم مجموعة من النساء والأطفال والرجال غير المسلحين. سيذبحهم فرعون عن آخرهم.

صرخت بعض الأصوات من قوم موسى: سيدركنا فرعون.
قال موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).

لم يكن يدري موسى كيف ستكون النجاة، لكن قلبه كان ممتلئا بالثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، فالله هو اللي يوجهه ويرعاه. وفي اللحظة الأخيرة، يجيء الوحي من الله (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ) فضربه، فوقعت المعجزة (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) وتحققه المستحيل في منطق الناس، لكن الله إن أراد شيئا قال له كن فيكون.

ووصل فرعون إلى البحر. شاهد هذه المعجزة. شاهد في البحر طريقا يابسا يشقه نصفين. فأمر جيشه بالتقدم. وحين انتهى موسى من عبور البحر. وأوحى الله إلى موسى أن يترك البحر على حاله (وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ). وكان الله تعالى قد شاء إغراق الفرعون. فما أن صار فرعون وجنوده في منتصف البحر، حتى أصدر الله أمره، فانطبقت الأمواج على فرعون وجيشه. وغرق فرعون وجيشه. غرق العناد ونجا الإيمان بالله.

ولما عاين فرعون الغرق، ولم يعد يملك النجاة (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سقطت عنه كل الأقنعة الزائفة، وتضائل، فلم يكتفي بأن يعلن إيمانه، بل والاستسلام أيضا (وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) لكن بلا فائدة، فليس الآن وقت اختيار، بعد أن سبق العصيان والاستكبار (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
انتهى وقت التوبة المحدد لك وهلكت. انتهى الأمر ولا نجاة لك. سينجو جسدك وحده. لن تأكله الأسماك، ولين يحمله التيار بعيدا عن الناس، بل سينجو جسدك لتكون آية لمن خلفك.

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) (يونس)
أسدل الستار على طغيان الفرعون. ولفظت الأمواج جثته إلى الشاطئ. بعد ذلك. نزل الستار تماما عن المصريين. لقد خرجوا يتبعون خطا موسى وقومه ويقفون أثرهم. فكان خروجهم هذا هو الأخير. وكان إخراجا لهم من كل ما هم فيه من جنات وعيون وكنوز؛ فلم يعودوا بعدها لهذا النعيم! لا يحدثنا القرآن الكريم عما فعله من بقى من المصررين في مصر بعد سقوط نظام الفرعون وغرقه مع جيشه. لا يحدثنا عن ردود فعلهم بعد أن دمر الله ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يشيدون. يسكت السياق القرآني عنهم. ويستبعدهم تماما من التاريخ والأحداث.
ץمْ ـنَآدِيץ غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-28-2008, 01:31 PM   #9

شوووق
مشرفة الملتقى الإسلامي
 
الصورة الرمزية شوووق

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 269
التسِجيلٌ : Apr 2005
مشَارَڪاتْي : 12,635
الُجٍنس :
دًولتّيَ : دولتي Saudi Arabia
مُزَأجِيِ : مزاجي
 نُقآطِيْ » شوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond reputeشوووق has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   laban
мч ѕмѕ ~
أحب الهدوء ،، أكره الظلم ،، احترم الانسان الخلوق ،، أتمنى إيصال كل المعاني الجميلة للناس ..
افتراضي

الله يجزاك الجنة ياخوي منادي

والله يوفقك لكل الخير يارب ..

ياليت تذكر المصدر عشان أقدر أثبت الموضوع ..
شوووق غير متصل   رد مع اقتباس
قديم 10-29-2008, 12:49 PM   #10

عديل الروح
مشرف سابق
 
الصورة الرمزية عديل الروح

رقَمْ آلع’َـضويـہ: 3204
التسِجيلٌ : May 2008
مشَارَڪاتْي : 11,210
 نُقآطِيْ » عديل الروح is on a distinguished road
افتراضي

عديل الروح غير متصل   رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

ملتقى مدينة العيون

الساعة الآن 07:27 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

new notificatio by 9adq_ala7sas
ملتقى مدينة العيون

Security team