|
للإتصال بالإدارة عند حدوث أي مشكلة أو إبداء رأي
الإهداءات |
|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
09-21-2008, 06:40 AM | #21 | ||||||||||
|
الحمدُ لله الَّذِي لشرعه يَخْضَعُ مَنْ يعْبُد، ولِعَظَمتِه يخشعُ مَنْ يَرْكع ويسجُد، ولِطِيْب مناجاتِه يسهرُ المتَهْجِّدُ ولا يرْقُد، ولِطَلبِ ثوابِه يَبْذِلُ المُجَاهدُ نَفْسَه ويَجْهد، يتَكَلَّمُ سبحانَه بكلامٍ يجِلُّ أنْ يُشَابِه كَلاَمَ المخلوقين ويَبْعد، ومِنْ كلامِهِ كتابُه المُنَزَّلُ على نبيِّهِ أحمد، نقرؤه ليلاً ونهاراً ونُرَدِّد، فلا يَخْلَقُ عن كثرةِ التَّردَادِ ولا يَمُلَّ ولا يُفَنَّد، أحمده حَمْدَ مَنْ يَرْجُو الوقوفَ على بابِه غيرَ مُشَرَّد، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له شهادةَ مَنْ أخلصَ لله وتَعَبَّد، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذي قام بواجب العبادِة وتَزَوَّدْ، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الصديق الَّذِي ملأ قلَوب مُبْغِضيْهِ قَرحَاتٍ تُنْفِد، وعلى عُمَرَ الَّذِي لم يَزْل يُقَوِّي الإِسلامَ ويَعْضُد، وعلى عثمان الَّذِي جاءَتْه الشهادةُ فلم يترَدَّدْ، وعلى عليٍّ الَّذِي ينْسفُ زرْعَ الكُفرِ بسيفِه ويَحْصُد، وعلى سائرِ آلِهِ وأصحابِه صلاة مُسْتَمرَّة على الزمانِ الْمُؤبَّد، وسلَّم تسليماً. إخواني: إنَّ هذا القرآنَ الَّذِي بَيْنَ أيْدِيكم تتْلُونه وتسمعونَه وتحفَظُونه وتكتُبونَه هو كلامُ ربِّكُمْ ربِّ الْعَالِمِين، وإِله الأوَّلِين والآخِرِين، وهو حبْلُه المتينُ، وصراطُهُ المستقيم، وهو الذِّكْرُ المبارَكُ والنورُ المبين، تَكلَّمَ الله به حقيقةً على الوصفِ الَّذِي يَلِيْقُ بجلالِهِ وعظَمتِه، وألْقَاه على جبريل الأمينِ أحَدِ الملائكةِ الكرام المقَرَّبين، فنزلَ به على قلبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلّم ليكون من المُنْذرِين بلسانٍ عربيٍّ مبينِ، وَصَفَهُ الله بأوصافٍ عظيمةٍ لِتُعظِّمُوه وتحترمُوه فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [البقرة: 185] {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَـاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ الْحَكِيمِ } [آل عمران: 58] {يَـأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [النساء: 174] {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَـابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } [المائدة: 15، 16] {وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ } [يونس: 37] {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود: 1] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـفِظُونَ } [الحجر: 9] {وَلَقَدْ ءاتَيْنَـاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ } [الحجر: 87، 88] {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَـابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 15] {إِنَّ هَـذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } [الإِسراء: 9، 10] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّـالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا } [الإِسراء: 82] {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [الإِسراء: 88] {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الاَْرْضَ وَالسَّمَـاوَتِ الْعُلَى } [طه: 2 4] {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَـلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاَْوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَءِيلَ } [الشعراء: 192- 197] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَـاطِينُ * وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [الشعراء: 210، 211] {بَلْ هُوَ ءَايَـاتٌ بَيِّنَـاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } [العنكبوت: 49] {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَـافِرِينَ } [يس: 69، 70] {كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاَْلْبَـابِ } [ص: 29] {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } [ص: 67] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَـاباً مُّتَشَـابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَـابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَـاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 41، 42] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَـابُ وَلاَ الإِيمَـانُ وَلَـكِن جَعَلْنَـاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى: 52] {وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَـبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 4] {هَـذَا بَصَـائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [الجاثية: 20] {وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ } [ق: 1] {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَـابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } [الواقعة: 75 80] {لَوْ أَنزَلْنَا هَـذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَْمْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21] وقال تعالى عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ } [الجن: 1، 2] وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21، 22]. فهذه الأوصافُ العظيمةُ الكثيرةُ التي نقَلْناها وغيرُها مِمَّا لم نَنْقُله تدُل كلُّها على عَظَمةِ هذا القرآنِ ووجوبِ تعظيمِه والتَّأدُّبِ عند تلاوتِه والبعدِ حال قراءتِه عن الهُزءِ واللَّعِب. فمِنْ آداب التِّلاوَةِ إخْلاصُ النيِّةِ لله تعالى فيها لأنَّ تِلاَوَةَ القرآنِ من العباداتِ الجَليلةِ، كما سبقَ بَيَانُ فضلها، وقد قال الله تعالى {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر: 14]، وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ } [الزمر: 2]. وقال تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ } ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «اقْرَؤُوا القرآنَ وابْتغُوا به وجهَ الله عزَّ وجلَّ مِن قبلِ أن يأتيَ قومٌ يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه»، رواه أحمد[33]. ومعنى يتعجَّلونه يَطْلبون به أجْرَ الدُّنيا. ومِنْ آدَابِها: أنْ يقرأ بقلْبٍ حاضرٍ يتدبَّرُ ما يقْرَأ ويتفهَّمُ معانِيَهُ ويَخْشعُ عند ذلك قَلْبُه ويَسْتحضر بأنَّ الله يخاطِبُه فيه هذا القرآن لأنَّ القُرْآنَ كلامُ الله عزَّ وجَلَّ. ومِنْ آدَابِها: أنْ يَقْرَأ على طهارةٍ لأن هذا من تعظيم كلامِ الله عزَّ وجل، ولا يَقْرأ الْقُرآنَ وهو جُنُبٌ حَتَّى يَغْتَسِلَ إِنْ قدِر على الماءِ أو يَتيمَّم إنْ كان عاجزاً عن استعمال الماء لمرضٍ أوْ عَدَم. ولِلْجُنُبِ أن يذْكُرَ الله ويَدْعُوَهُ بِما يُوَافقُ الْقُرْآنَ إذا لم يقصدِ القرآنَ، مِثْلُ أن يقولَ: لا إِله إِلاَّ أنتَ سبحانَكَ إني كنتُ من الظالمين، أوْ يقولَ: ربنا لا تُزغْ قُلوبَنا بعد إذْ هَدَيتْنَا وهَبْ لَنَا من لَدُنْكَ رحمةً إنك أنتَ الوَهَّاب. ومنْ آدَابِها: أنْ لا يقرأ القرآنَ في الأماكِنِ المسْتَقْذَرة أو في مجمعٍ لا يُنْصَتُ فيه لقراءتِه لأن قراءَتَه في مثل ذلكَ إهانةٌ له. ولا يجوز أن يقرأ القرآن في بْيتِ الخلاءِ ونحوه مما أُعِدَّ للتَّبَوُّلِ أو التَّغَوُّطِ لأنه لا يَلِيْقُ بالقرآنِ الكريمِ. ومِنْ آدابِها: أن يستعيذَ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ عندَ إرادةِ القراءة لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَـنِ الرَّجِيمِ } [النحل: 98] ولئلاَّ يَصُدَّه الشيطانُ عن القراءةِ أوْ كمالِها. وأمَّا الْبَسْمَلةُ فإنْ كان ابتداءُ قِرَاءتِه منْ أثْنَاءِ السُّوْرَةِ فلا يُبَسْمِلُ، وإنْ كانَ من أوَّلِ السورةِ فَلْيُبَسْمِلْ إلا في سورةِ التَّوْبةِ فإنَّه ليس في أوَّلها بَسْملةٌ. لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أشْكَلَ عليهم حينَ كتابةِ المِصْحفِ هل هي سورةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أو بقيَّةُ الأنْفال ففَصَلُوا بينهما بدونِ بَسْمَلةٍ وهذا الاجتهاد هو المطابق للواقع بلا رَيْبٍ إذْ لو كانت البَسْمَلة قد نزلت في أولها لَبَقِيَتْ محفوظة بحفظ الله عزَّ وجل لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـافِظُونَ } [الحجر: 9]. ومِن آدَابِها: أن يُحَسَّنَ صوتَه بالقُرآنِ ويترَّنَّمَ به، لمَا في الصحيحين من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما أذِنَ الله لِشَيْء (أي ما اسْتَمَع لشيءٍ) كما أذِنَ لنَبِيٍّ حَسنِ الصوتِ يَتغنَّى بالقرآنِ يَجْهرُ به». وفيهما عن جبيرِ بن مُطْعمٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقرأُ في المَغربِ بالطُّورِ فما سمعتُ أحداً أحسنَ صوتاً أو قراءةً منه صلى الله عليه وسلّم. لكِنْ إنْ كان حوْلَ القارئ أحدٌ يتأذَّى بِجهْرهِ في قراءتِه كالنائم والمصليِّ ونحوهما فإنَّه لا يجْهرُ جهْراً يشَوِّشُ عليه أو يؤذيه، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خَرجَ على الناسِ وهُمْ يُصَلُّون ويجهرون بالقراءةِ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن المُصَلّي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ في القرآن»، رواه مالك في المُوَطَّأ. وقال ابن عبدالبر: وهو حديث صحيح. ومِن آدَابِها: أنْ يُرتِّلَ القرآنَ ترتيلاً لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً } [المزمل: 4] فيقْرأهُ بتَمهُّلٍ بدونِ سُرعةٍ لأنَّ ذلك أعْوَنُ على تدَبُّر معانِيه وتقويمِ حروفِه وألْفاظِه. وفي صحيح البخاريِّ عن أنس بن مالِك رضي الله عنه أنه سُئِل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: كانتْ مَدَّاً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدُّ بسم الله ويَمدُّ الرحمن ويمدُّ الرحيم، وسُئِلتْ أمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عنها عن قراءةِ النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: كان يُقَطِّعُ قراءتَه آيَةً آيةً، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَـلَمِينَ * الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ * مَـلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، رواه أحمدُ وأبو داود والترمذي، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تَنْثُروُه نثْرَ الرَّملِ ولا تهذُّوه هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوْا عند عجائِبِه وحَرِّكُوا بهِ القلوبَ ولا يكنْ هَمُّ أحَدِكم آخِرَ السورةِ. ولا بأْسَ بالسرعةِ الَّتِي ليس فيها إخْلالٌ باللفظِ بإسْقاط بعضِ الحروفِ أوْ إدغام ما لا يصح إدْغامُه. فإنْ كان فيها إخلالٌ باللفظِ فهي حرَامٌ لأنها تغييرٌ للقرآنِ. ومِنْ آدَابِها: أنْ يسجدَ إذا مرَّ بآيةِ سَجْدةٍ وهو على وضوءٍ في أيِّ وقتٍ كان مِنْ ليلٍ أوْ نهارٍ، فيُكبِّرُ للسجودِ ويقولُ: سبحان ربِّي الأعلى، ويدْعُو، ثم يرفعُ مِنَ السجودِ بدونِ تكبير ولا سلامٍ، لأنَّه لم يردْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إلاَّ أنْ يكونَ السجودُ في أثْناءِ الصلاةِ فإنه يكَبِّر إذا سَجَد وإذا قام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان يُكبِّر في الصلاةِ كُلَّما خَفَضَ وَرفَعَ ويُحَدِّثُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يَفْعَلُ ذَلِك، رواه مسلم. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يُكبِّر في كلِّ رَفعٍ وخَفْضٍ وقيامٍ وقعودٍ، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وهذا يعُمُّ سجودَ الصلاةِ وسجودَ التلاوةِ في الصلاةِ. هذه بعض آدابِ القراءةِ، فتأدَّبُوا بِها واحرِصوا عليها وابتغُوا بها من فضلِ الله. اللَّهُمَّ اجْعَلْنا من المعظِّمين لحرماتِك، الفائزين بهباتِك، الوارِثين لِجنَّاتِكَ، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين. -------------------------------------------------------------------------------- [33] إسناده حسن. |
||||||||||
09-21-2008, 06:41 AM | #22 | ||||||||||
|
الحمدُ لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالم وإبْداعِ فُنُونِه، المدبِّر لكلٍّ منهُمْ في حركتِه وسُكُوْنِه، أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، في أعْوادِه وغُصُونِه، مد الأرْضَ ووضعَها وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا، في حنْدسِ اللَّيلِ ودُجُوْنه، أنزل القطْر وبلاً رَذاذاً، فأنْقَذَ به البِذْر من اليُبْسِ إنْقاذاً، {هَـذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } [لقمان: 11]، أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ في جميع شأنه، وعلى عُمرَ مقْلقِ كِسْرى في إيوانِه، وعلى عثمانَ ساهرِ ليْلِهِ في قرآنِه، وعلى عليٍّ قالعِ بابِ خيْبرَ ومُزَلْزِل حُصونِه، وعلى آلِهِ وأصحابه المجتهد كلٌ منهم في طاعةِ ربِّه في حركتِه وسكونِه، وسَلَمَ تسليماً. إخواني: قال الله تعالى: {فَالئانَ بَـاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [البقرة: 187]. ذكَرَ الله في هذه الآيةِ الكريمةِ أصُولَ مُفَطِّراتِ الصومِ وذكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في السُّنَّةِ تمامَ ذلك. والمُفَطِّرَاتُ سبعةُ أنْواع: الأول: الجماعُ وهو إيلاجُ الذَّكَرِ في الْفَرْجِ، وهو أعْظَمُها وأكْبَرُها إثماً. فمَتَى جامع الصائمُ بطَل بصومُه فَرْضاً كان أوْ نَفْلاً. ثم إنْ كان في نهارِ رمضانَ والصومُ واجبٌ عليه لَزِمه مع القضاءِ الكفارةُ المغلَّظةُ وهي عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ فإنْ لم يَجدْ فصيام شهرينِ متتابعين لا يُفْطرِ بينهما إلاَّ لعُذْرٍ شرعيٍّ كأيَّام العيدين والتشريقِ أو لعُذْرٍ حسِّيٍّ كالمَرضِ والسفر لغيرِ قصدِ الْفِطْر، فإنْ أفطَرَ لغيرِ عذرٍ ولو يوماً واحداً لزمه استِئْنافُ الصيامِ مِنْ جديدٍ ليحصلَ التتابُع فإن لَم يستطعْ صيامَ شهرينِ متتابعين فإطعامُ ستِّين مسكيناً لِكُلِّ مسكينٍ نِصفُ كيلو وعَشرةُ غراماتٍ من الْبُرِّ الجيِّد[34]، وفي صحيح مسلم أن رجلاً وقع بامرأتِهِ في رمضانَ فاستَفْتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «هَلْ تجدُ رقبةً؟ قال: لا. قال: هل تستطيعُ صيامَ شهرين؟ (يعني متتابعين كما في الروايات الأخْرَى) قال: لا. قال: فأطْعِمْ ستين مِسْكيناً». وهو في الصحيحين مطولاً. الثاني: إنزالُ المنيِّ باختياره بتقبيل أو لمسٍ أو استمناء أو نحو ذلك لأنَّ هذا مِنَ الشَّهْوةِ الَّتِي لا يكونُ الصوم إلاَّ باجتِنَابها كما جاء في الحديث الْقُدْسيِّ: «يَدَع طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجْلِي»، رواه البخاري. فأمَّا التقبيلُ واللَّمْس بدونِ إنْزالٍ فلا يُفَطِّرُ، لمَا في الصحيحين من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُقَبِّلُ وهو صائمٌ ويباشر وهو صائمٌ، ولَكِنَّه كان أمْلَكَكُمْ لإِربِه». وفي صحيح مسلم أنَّ عُمرَ بن أبي سلمة سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم: أيُقَبِّلُ الصائمُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «سَلْ هذه ـ يعني أمَّ سلمةَ ـ فأخْبَرتْهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصنعُ ذلك، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: أما والله إني لأتقاكم لله وأخَشاكم له»، لكن إنْ كان الصائمُ يخشى على نفْسِه من الإِنزالِ بالتقبيلِ ونحوِه أو مِنَ التدَرُّج بذلك إلى الجماعِ لعدمِ قوَّتِهِ على كَبْحِ شَهْوَتِهِ فإنَّ التقبيلَ ونَحْوَه يحرم حينئذٍ سَداً للذَّريعةِ، وَصوناً لصيامه عن الفسادِ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم المتوضأ بالمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائماً خوفاً من تسرب الماء إلى جوفه. وأمَّا الإِنزالُ بالاحتلام أو بالتَّفْكير المجرَّدِ عن العمل فلا يُفَطِّر لأنَّ الاحتلامَ بغيرِ اختيارِ الصائَم. وأمَّا التَفكيرُ فمعفوٌ عنه لقولِه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله تَجَاوزَ عن أمَتِي ما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا ما لم تَعْملْ أوْ تتكلمْ»، متفق عليه. الثالث: الأكلُ أو الشربُ، وهو إيصالُ الطَّعامِ أو الشراب إلى الْجَوْف من طريقِ الْفَمِ أو الأنفِ أيَّاً كان نوعُ المأكولُ أو المَشروب، لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } [البقرة: 187] والسَّعُوط في الأنْفِ كالأكل والشرب لقوله صلى الله عليه وسلّم في حديث لَقِيْط بن صبرة: «وبالِغْ في الاستنشاقَ، إلاَّ أن تكون صائماً»، رواه الخمسة وصححه الترمذي. فأما شم الروائح فلا يفطِّر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف. الرابع: ما كان بمَعْنَى الأكْلِ والشربِ وهو شيئانِ: أحَدُهما: حَقْنُ الدَّمِ في الصائمِ مثل أن يُصابَ بنزيفٍ فيُحقنَ به دمٌ فيفْطِرُ بذلك لأن الدَّمَ هو غايةُ الغِذاءِ بالطَّعامِ والشرابِ، وقد حصل ذلك بحقن الدَّم فيه.[35] الشيء الثاني: الإِبُر المغذِّيةُ الَّتِي يُكتَفَى بها عن الأكل والشرب فإذا تناوَلها أفْطَر لأنها وإنْ لم تكن أكْلاً وشرباً حَقِيْقةً، فإنَّها بمعناهُما، فَثَبَت لها حُكمهما. فأمَّا الإِبرُ غير المُغَذِّيةِ فإنَّها غيرُ مُفَطِّرةٍ سواءٌ تَنَاولها عن طريق العَضَلاتِ أو عن طريق الَعُرُوقِ حَتَّى ولو وجدَ حرارتها في حلْقِهِ فإنَّها لا تُفْطِّرَ لأنها ليست أكلاً ولا شُرباً ولا بمعناهما، فلا يثْبت لها حُكمهما، ولا عِبْرةَ بوجودِ الطَّعْمِ في الحلْقِ في غير الأكل والشربِ، ولذا قال فُقُهاؤنا: لو لَطخَ باطنِ قَدمِهِ بِحَنْظَلٍ فوجد طعْمَه في حلقِه لم يُفْطِر، وقال شيخ الإِسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله في رِسالةِ «حقيقةُ الصيامِ»: ليس في الأدلة ما يَقْتضي أنَّ المُفَطِرَ الَّذِي جَعلهَ الله ورسوله مُفَطِّراً هو ما كَانَ واصِلاً إلى دماغٍ أو بَدنٍ أوْ ما كان داخِلاً مِنْ مَنْفَذٍ أو واصِلاً إلى جوفٍ ونحْو ذَلِك من المعاني التي يجعلُها أصحابُ هذه الأقاويل هي مَنَاطَ الْحُكْمِ عند الله ورسولِه. قال: وإذا لم يكنْ دليلٌ على تعليق الله ورسولِه الْحُكْمَ على هذا الْوَصفِ، كان قولُ القائلِ: إنَّ الله ورسوله إنَّما جعلا هذا مُفَطِّراً لِهذَا قولاً بلا عِلمٍ. انتهى كلامِه رحمه الله. الخامسُ: إخْراجُ الدَّمِ بالحجامةِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «أفْطَر الحاجِمُ والمَحْجُومُ»، رواه أحمد وأبو داود من حديث شَدَّاد بن أوْسٍ، قال البخاريُّ: ليس في البابِ أصَحُّ منه. وهذا مذهبُ الإِمام أحمدَ وأكْثر فقهاءِ الحديث. وفي معنى إخراجِ الدَّمِ بالحجامِة، وعلى هذا فلا يجُوزُ للصائم صوماً واجباً أن يتبرعَ بإخراج دمه الكثير الَّذِي يؤثر على البدن تأثير الحجامة إلا أن يوجدَ مضطرٌ له لا تندفعُ ضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه فيجوز للضرورة، ويفطر ذلك اليوم ويقضي. وأما خروج الدم بالرُّعافِ أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإِبرة ونحوها فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذا لا يؤثر في البدن كتأثيرِ الحجامةِ. السادسُ: التَّقَيُّؤ عَمْداً وهو إخراجُ ما في المَعِدةِ من طعام أو شرابٍ عن طريق الْفَم، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «منْ ذَرَعه الْقَيءُ فليس عليه قضاءٌ ومَن استقاء عمداً فلْيَقض»، رواه الخمسة إلا النسائيَّ وصححه الحاكم ومَعْنَى ذرعه غَلَبه ويفطر إذا تعمد القيء إما بالفعل كعصر بطنه أو غمز حلقه أو بالشم مثل أن يشم شيئاً ليقيء به أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقيء به فيُفْطِرُ بذلك كلِّه، أمَّا إذَا حصلَ القيءُ بدونِ سببٍ منه فإنَّه لا يَضرُّ، وإذا راجت مَعِدتُهُ لَمْ يلزمْه مَنْعُ القَيءِ لأنَّ ذلك يَضُرُّه ولكنْ يتركُه فلا يحاولُ القيءَ ولا منْعَه. السابعُ: خروجُ دمِ الْحَيْضَ والنِّفَاسِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم في المَرْأةِ أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ فمتى رأتْ دمَ الْحَيْض أو النِّفاس فَسدَ صومُها سَواءٌ في أوَّل النهارِ أمْ في آخرِهِ ولو قبل الغُروبِ بَلَحظةٍ وإنْ أحَسَّتْ بانتقال الدَّمِ ولم يَبْرُزْ إلاَّ بعد الغروبِ فصومُها صحيحٌ. ويحرمُ على الصائمِ تناوُلُ هذه المفُطِّراتِ إن كان صَومُه واجباً كصومِ رمضان والكفارةِ والنَّذْرِ إلا أن يكون له عذرٌ يبيح الفطرَ كسفرٍ ومرضٍ ونحوهما لأن من تلبَّس بواجبٍ لزمه إتمامُه إلا لعذرٍ صحيح، ثم إن من تناولها في نهارِ رمضانَ لغيِر عذرٍ وجب عليه الإِمساكُ بقيةَ اليوم والقضاءُ وإلا لزمه القضاء دونَ الإِمساك. أما إن كان صومُه تطوعاً فإنه يجوز له الفطرُ ولو بدون عذر لكن الأولى الإِتمام. إخواني: حافظُوا على الطَّاعات، وجانبُوا المعاصيَ والمحرَّمات، وابتهلوا إلى فاطرِ الأرض والسموات، وتعرَّضُوا لنفحاتِ جودِه فإنَّه جزيلُ الْهبات. واعلموا أنه ليسَ لكم من دُنْياكم إلا ما أمضَيْتُموه في طاعةِ مولاكم. فالْغَنِيْمةَ الغنيمةَ قبلَ فواتِ الأوَان. والمرابَحَةَ المرابحةَ قبل حُلولِ الخُسْران. اللَّهُمَّ وفِّقْنَا لاغتنامِ الأوقات، وشغْلِها بالأعمالِ الصالحات، اللَّهُمَّ جُدْ علينا بالْفضلِ والإِحسان، وعاملنا بالعفوِ والغُفْران، اللَّهُمَّ يَّسرْنَا لليُسرى، وجنِّبْنا العُسْرى واغْفِرْ لنا في الآخِرةِ والأولى، اللَّهُمَّ ارزقنا شفاعةَ نبيِّنا وأوْردْنا حوضه وأسقِنَا منه شربةً لا نظْمأ بعدَها أبداً يا ربَّ العالمين. اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين. -------------------------------------------------------------------------------- [34] ويجزئ الرز عن البر لكن تجب ملاحظة الوزن فإن كان الرز أثقل زيد في وزنه بقدره وإن كان أخف نقص من وزنه بقدره. [35] هذا ما كنت أراه من قبل ثم ظهر لي أن حقن الدم لا يفطر لأنه ليس أكلاً ولا شراباً ولا بمعناهما والأصل بقاء صحة الصوم حتى يتبين فساده ومن القواعد المقررة أن اليقين لا يزول بالشك. |
||||||||||
09-21-2008, 06:43 AM | #23 | ||||||||||
|
الحمدُ لله الحكيم الخالق، العظيم الحليم الصادق، الرحيِمِ الكريمِ الرازِق، رَفَعَ السَّبْع الطرائق بدون عمَدٍ ولا عَلائقِ، وثبَّتَ الأرضَ بالجبالِ الشواهِق، تَعرَّفَ إلى خلْقه بالبراهينِ والحقائِق، وتكفَّلَ بأرزاقِ جميع الخلائق، خلق الإِنسان من ماء دافق، وألزمه بالشرائع لوصل العلائق، وسامَحَه عنِ الخطأ والنسيانِ فيما لا يُوَافق. أحْمَدُه ما سكتَ ساكتٌ ونطقَ ناطِق، وأشْهَد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ لا منافِق، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الذي عمَّتْ دعوتُه النازل والشَّاهِق، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ القائمِ يومَ الرِّدَّةِ بالْحَزم اللائق، وعلى عُمَرَ مُدَوِّخ الكفارِ وفاتِح المَغْالِقَ، وعلى عثمانَ الذي مَا اسْتَحَلَّ حُرْمَتَه إلاَّ مارِق، وعلى عليٍّ الذي كان لِشَجاعَتِه يَسْلُك المَضَايق، وعلى آلِهِ وأصحابِه الذين كُلٌّ منهم على من سِواهُم فائِق، وسلَّم تسليماً. إخواني: إن المُفطِّراتِ السابقةَ ما عدا الحيضَ والنِّفاس، وهي الجماعُ والإِنزالُ بالمباشرةِ والأكلُ والشربُ وما بمعناهما والحجامةُ والقيءُ لاَ يُفطِّرُ الصائمَ شَيءٌ منها إلاَّ إذا تَنَاولها عالماً ذاكرِاً مختاراً فهذه ثلاثة شروطٍ: الشرطُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ عالماً، فإن كان جاهِلاً لم يُفطِرُ، لقوله تعالى في سورةِ البقرةِ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [286] فقال الله: قد فَعَلْت[36]ُ، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الأحزاب: 5]. وسواءٌ كان جاهِلاً بالْحُكْمَ الشَّرْعِيِّ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ هذا الشيءَ غير مُفَطِّرٍ فيَفْعَلَه أو جاهِلاً بالحَالِ أيْ بالْوقْتِ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فيأْكُلَ وهو طالِعٌ، أو يظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فيأكلَ وهي لم تَغْرُب، فلا يُفْطِر في ذلك كلِّه، لما في الصحيحين عن عَدِيِّ بن حاتِم رضي الله عنه قال: لمَّا نزَلتْ هذه الاية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } [البقرة: 187] عمَدتُ إلى عِقالَين: أحَدُهما أسْودُ والآخَرُ أبْيَضُ فجعلتُهما تحت وِسادتِي وجعلتُ أنظُرُ إليهما فلما تبيَّن لِي الأبيضُ من الأسْودِ أمسكتُ، فلمَّا أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخْبرتُه بالَّذِي صَنعتُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ وِسادَك إذنْ لعرِيضٌ إن كان الخيطُ الأبيضُ والأسودُ وسادك إنَّما ذلك بياضُ النهارِ وسوادُ الليل». فقد أكلَ عدّي بعد طلوعِ الْفَجْر ولم يمسكْ حتى تبين له الخيطانِ ولم يأمُرُه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بالقضاءِ لأنه كان جاهلاً بالْحُكْمِ. وفي صحيح البخاريِّ من حديثِ أسْماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالَتْ: أفْطرْنَا في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَهُمْ بالقضاءِ، لأنهم كانوا جاهِلينَ بالوقتِ ولو أمَرهُمْ بالقضاءِ لنُقِلَ، لأنه ممَّا توَفَّرُ الدَّواعِي على نقلِهِ لأهميَّتِه، بل قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية في رسالةِ (حقيقة الصيام): إنه نَقَل هشامُ بنُ عُرْوةَ أحدُ رواة الحديث عن أبيهِ عروةَ أنهم لم يؤمَرُوا بالقضاءِ. لَكنْ متى علِم ببقاءِ النهارِ وأن الشَّمسَ لم تغب أمْسكَ حتى تغيبَ. ومثْلُ ذَلِكَ لَوْ أكَلَ بعد طلوع الفجرِ يظنُّ أنَّ الْفَجْر لَمْ يطْلُعْ، فتبيَّن له بعد ذلك أنه قد طلعَ فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّه كان جاهِلاً بالوقتِ، وقد أباحَ الله له الأكل والشربَ والجِماعَ حَتَّى يتبيَّنَ له الْفَجرُ، والمُباحُ المأذونُ فيه لا يُؤمَر فاعِلهُ بالقضاء، لكن متى تبيَّنَ له وهو يأكلُ أو يشربُ أن الشمسَ لم تغربْ أو أن الفجرَ قد طلع أمسكَ ولفَظَ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذرِه حينئذٍ. الشَّرطُ الثاني: أنْ يكونَ ذاكِراً، فإنْ كان ناسياً فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لمَا سبق في آيةِ الْبقرةِ، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «من نَسِي وهُوَ صائمٌ فأكَلَ أو شرِب فليُتِمَّ صَوْمَه فإنَّما أطْعمَه الله وسقاه»، متفق عليه واللَّفظ لمسلم. فأمْرُ النبي صلى الله عليه وسلّم بإتْمامِه دليلٌ على صحتِه، ونِسْبَةُ إطعام النَّاسِي وسقْيهِ إلى الله دليلٌ على عدم المؤاخذةِ عليه. لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ أمْسَكَ ولَفَظَ ما في فَمِه إن كان فيه شيءٌ لِزَوال عُذْره حِيْنَئذٍ، ويجب على من رأى صائماً يأكلُ أو يشربُ أن يُنبِّههُ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة: 5]. الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يكونَ مُخْتاراً، أي مُتَنَاولاً لِلْمُفَطِّر باخْتيَاره وإرادته، فإنْ كانَ مُكرَهاً فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّ الله سبحانَه رَفَعَ الْحُكمَ عَمَّنْ كَفَرَ مُكْرَهاً وقلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإِيمانِ فقال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَـانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106] فإذا رَفَع اللهُ حكْمَ الكفرِ عمن أُكْرِهَ عليه فمَا دونه أوْلى، ولقولِهِ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله تجاوز عن أمَّتِي الْخَطأ والنسيانَ وما اسْتُكرهوا عليه»، رواه ابنُ ماجة والبيهقيُّ وحسَّنَه النَّوَوِيُّ. فلوْ أكْرَهَ الرجلُ زوجتَه على الوطءِ وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها. ولا يحل له إكراهها على الوطءِ وهي صائمةٌ إلاَّ إنْ صامتْ تطوُّعاً بغير إذنه وهو حاضرٌ، ولو طارَ إلى جوفِ الصائم غُبارٌ أو دخل فيه شيءٌ بغير اختياره أو تمَضْمَضَ أوْ استَنْشَقَ فنزل إلى جوفِه شيء من الماءِ بغيرِ اختيارِهِ فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه. ولا يُفْطِرُ الصائمُ بِالْكُحْلِ والدواءِ في عينِه ولو وجد طعْمَه في حلْقِه لأنَّ ذلك ليس بأكْلٍ ولا شُربٍ ولا بمعناهُما، ولا يُفْطِر بِتَقْطير دواءٍ في أذُنِه أيْضاً، ولا بوضع دواءٍ في جرحٍ ولو وجد طعم الدواء في حَلْقِه لأنَّ ذلك ليس أكْلاً ولا شُرباً ولا بمعنى الأكْلِ والشُّرب. قال شيخ الإِسلام ابن تيميةَ في رسالةِ (حقيقةُ الصيام): ونحْنُ نعلَمُ أنه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يَدلُّ على الإِفْطارِ بهذه الأشَياءِ، فعَلِمْنَا أنَّها ليست مُفَطِّرةً، قال: فإنَّ الصيامَ من دينِ المسلمين الَّذِي يحتاج إلى معرفته الخاصُّ والعامُّ. فلَوْ كانتْ هذه الأمورُ مما حَرَّمه الله ورسولُه في الصيامِ ويفْسُدُ الصومُ بها لكانَ هذا مما يجبُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلّم بَيانُهُ، ولو ذكر ذلك لَعَلِمَهُ الصحابة وبَلَّغُوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقُلْ أحدٌ من أهْلِ العلمِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في ذلك لا حَديثاً صحيحاً ولا ضعِيفاً ولاَ مُسْنداً ولا مُرسَلاً عُلِم أنَّه لم يَذكُرْ شَيْئاً من ذلك، والحديث المَرويُّ في الكْحلِ يعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بالإِثمد المُرَوَّح عندَ النَّوم وقال: «ليتَّقهِ الصائِمُ»، ضعيفٌ، رواه أبو داود في السنن ولم يرْوهِ غيرُه. قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين هذا حديث منكر. وقال شيخ الإِسلام أيضاً. والأحكام التي تحتاجُ الأمَّةُ إلى معرفتها لا بُدَّ أن يُبيِّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بياناً عاماً ولا بُدَّ أنْ تَنْقُلها الأمَّةُ. فإذا انْتَفَى هذا عُلِمَ أن هذا ليس مِنْ دِيْنهِ. انتهى كلامُه رحمه الله وهو كلامٌ رَصِينٌ مبنيٌ على براهينَ واضحةٍ وقواعد ثابتةٍ. ولا يُفطِرُ بِذَوْق الطعامِ إذا لم يَبْلعْه ولا بشمِّ الطيب والْبخُورِ، لكن لا يسْتَنْشِقْ دُخانَ البَخُور لأنَّ لَهُ أجزاءً تصعدُ فربَّما وصلَ إلى المَعِدَة شيءٌ منه، ولا يُفْطِرُ بالمضمضمةِ والاستنشاقِ، لَكِنْ لا يُبالغُ في ذلك لأنَّه ربَّما تَهَّرب شيءٌ من الماءِ إلى جوفِه، وعن لَقِيْطِ بن صَبَرَةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أسْبغِ الوضوء وخَلِّلْ بينَ الأصابع وبالِغْ في الاستنشاق إلاَّ أنْ تكون صائماً»، رواه أبو داود والنسائيُّ وصححه ابنُ خزيمةَ. ولا يُفْطِرُ بالتَّسَوُّكِ، بل هو سُنَّةٌ له في النهار وآخره كالمُفْطِرينَ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «لولا أنْ أشقَّ على أمَّتِي لأَمرْتُهم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ»، رواه الجماعة. وهذا عامٌ في الصائمينَ وغيرِهم في جميع الأوْقاتِ، وقال عَامِرُ بنُ ربيعةَ رضي الله عنه: «رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم ما لا أحْصِي يتسوَّك وهو صائمٌ»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي[37]. ولا يَنْبَغِي للصائمِ تَطْهيرُ أسنانِهِ بالمعجُون لأنَّ له نفوذاً قويَّاً ويُخشَى أنْ يتَسرَّبَ مع ريِقِهِ إلى جوفه وفي السِّواكِ غُنيْةً عنه. ويجوزُ للصائمِ أنْ يفعلَ ما يخفِّفُ عنه شِدَّة الحرِّ والْعَطشِ كالتَّبَرُّدِ بالماءِ ونحوه لما رَوى مَالكٌ وأبو داودَ عن بعض أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بالُعَرْجِ (اسم موضع) يصبُّ المَاءَ على رأسهِ وهو صائم مِنَ الْعَطشِ، أوْ من الْحَر[38]. وبلّ ابنُ عُمَر رضي الله عنهما ثَوْباً فألْقَاه على نفْسِهِ وهو صائمٌ، وكان لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه حجَرٌ منْقُورٌ يشبِهُ الحَوضَ إذا وجدَ الحرَّ وهو صائمٌ نَزلَ فيه وكأنه والله أعلم مملوءٌ ماءً. وقال الْحَسَنُ لا بأسَ بالمضمضمةِ والتَّبرُّدِ للصائمِ، ذكَرَ هذه الاثارَ البخاريُّ في صحيحِه تعْلِيقاً. إخواني: تَفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بَصيرةٍ فإنَّه لا يستوي الَّذِين يعلمون والَّذِين لا يَعْلمُون. ومنْ يُردِ الله به خيراً يُفَقِّههُ في الدِّينِ. اللَّهُمَّ فقهْنا في ديْنِنا وارزقْنا العمل به، وثبِّتنَا عليه وتوفَّنَا مؤمِنين وألْحِقنَا بالصالحين. واغفر لنا ولِوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجْمعينَ. -------------------------------------------------------------------------------- [36] رواه مسلم. [37] ذكره البخاري معلقاً بصيغة التمريض . وحسنه الترمذي. وقال الحافظ ابن حجر في موضع من التلخيص: إسناده حسن. [38] صحيح. |
||||||||||
09-21-2008, 06:44 AM | #24 | ||||||||||
|
الحمدُ لله الَّذِي يمْحو الزَّلَلَ ويصْفح، ويغفر الخَطلَ ويسْمح، كلُّ منْ لاذَ بِهِ أفْلَح، وكلُّ من عَامَله يَرْبح، رَفَعَ السماءَ بغير عَمدٍ فتأمَّلْ والْمَح، وأنْزَلَ الْقَطرَ فإذا الزَّرعُ في الماءِ يسْبح، والمواشِي بعد الْجَدبِ في الْخصْب تَسرَح، وأقام الوُرْقَ على الوَرَقِ تُسَبِّح، أغْنَى وأفْقَر ورُبَّما كانَ الْفَقْرُ أصْلَح، فكم من غَنيٍّ طرحهُ الأشرُ والبطر أقْبحَ مطْرَحٍ، هذا قارونُ مَلَكَ الكثير لكنَّه بالقليل لم يَسْمح، نُبِّه فَلمْ يسْتَقيظْ ولِيم فلم ينْفعْه اللوم إذ قال له قومُه لا تَفْرحْ، أحْمَدُه ما أمْسَى النهارُ وما أصْبح، وأشْهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله الْغَنِيُّ الجوادُ مَنَّ بالعطاءِ الواسعِ وأفْسَح، وأشْهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي جاد لله بِنَفْسِهِ ومالِه وأبانَ الحَقَّ وأوْضحَ، صلَّى الله عليه وعلى صاحبِه أبي بكرٍ الَّذِي لازَمَهُ حضراً وسفراً ولم يَبْرَحَ، وعلى عُمَرالَّذِي لم يزلْ في إعْزازِ الدِّينِ يكْدَحُ، وعلى عثمانَ الَّذِي أنفق الكثير في سبيلِ الله وأصْلَحَ، وعلى عليٍّ ابنِ عَمِّهِ وأَبْرَأ ممَّن يغلُو فيه أو يَقْدح، وعلى بقيةِ الصحابةِ والتابعين لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليماً. إخواني: قال الله تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ } [البينة: 5]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [المزمل: 20]، وقال تعالى: {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم: 39]. والآياتُ في وجوبِ الزكاةِ وفرْضِيَّتها كثيرةٌ، وأمَّا الأحاديثُ فمنها ما في صحيح مسلم عن عبدالله بن عُمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال: «بُني الإِسلامُ على خمسةٍ: على أنْ يُوحَّدَ الله، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصيامِ رمضانَ، والحجِّ»، فقال رجلٌ: الحجِّ وصيامِ رمضانَ؟ قال: لاَ، صيامِ رمضانَ، والحجِّ، هكذا سمعته من رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم. وفي روايةٍ: شهادةِ أنْ لا إِلهَ إلاَّ الله وأنْ محمداً رسولُ الله (الحديث بمعناه). فالزَّكاةُ أحدُ أركانِ الإِسْلامِ ومبانيِه العِظَام وهي قرينةُ الصلاةِ في مواضِعَ كثيرةٍ من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقد أجْمعَ المسلمونَ على فرْضِيَّتها إجماعاً قَطْعِيَّاً. فمنْ أنْكَر وجوبَها مع عِلْمِه به فهو كافرٌ خارجٌ عن الإِسْلامِ، ومن بخِلَ بها أو انْتَقصَ منها شيئاً فهو من الظَّالمينَ المتَعرضينَ للعقوبةِ والنَّكالِ. وتجب الزكاةُ في أربعةِ أشياء: الأوَّل: الخارجُ من الأرضِ من الحبوب والثمار لقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَـتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الاَْرْضِ } [البقرة: 267]، وقولِهِ سبحانه: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأنعام: 141]. وأعْظَمُ حقوقِ المالِ الزكاةُ. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «فِيْمَا سَقَتِ السماءُ أوْ كان عثريّاً الْعُشْرُ وفيما سُقِي بالنَّضح نصفُ العُشر»، رواه البخاري. ولا تجبُ الزكاةُ فيه حتى يبلُغَ نصاباً وهو خَمْسةُ أوْسقٍ، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ليسَ في حبٍّ ولا ثَمَرٍ صَدَقةٌ حَتَّى يبْلُغَ خمسةَ أوسق»، رواه مسلم. والْوَسَقُ سِتُّون صاعاً بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فيكونُ النصابُ ثَلَثَمائَة صاعٍ بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الَّذِي تبلغ زِنَتُه بالبُرِّ الجيِّدِ ألْفَين وأربَعينِ جَرَاماً؛ أيْ كِيْلُوين وخُمسي عُشر الْكِيلُو، فتكونُ زنةُ النصاب بالبُرِّ الجيِّد ستمائةٍ واثْنَي عَشَرَ كيْلو. ولا زكاةَ فيما دُوْنها.ومِقْدَارُ الزكاةِ فيها الْعُشْرُ كاملاً فيما سُقِيَ بدونِ كُلْفةٍ ونِصفُه فيما سُقيَ بكلْفةٍ، ولا تَجبُ الزكاةُ في الفواكِهِ والخضرواتِ والبِطِّيخِ ونحوها، لقولِ عمَرَ: ليس في الخُضْرواتِ صدقةٌ، وقولِ عليٍّ: ليس في التُّفَّاحِ وما أشبَه صدقةٌ، ولأنها ليست بحبٍّ ولا ثمرٍ لكن إذا باعها بدراهمَ وحالَ الحولُ على ثَمنِهَا ففيهِ الزكاةُ. الثاني: بَهيمةُ الأنعامِ وهي الإِبلُ والبقرُ والغَنَمُ ضأنًا كانت أم مَعْزاً إذا كانت سَائِمةً وأُعِدت لِلدَّر والنَّسْلِ وبلغَت نِصاباً، وأقلُّ النصابِ في الإِبْلِ خَمْسٌ، وفي البقرِ ثلاثون، وفي الغنم أربعون. والسائمةُ هي التي ترعى الْكَلأ النابتَ بدون بذْرِ آدمِيً كلَّ السَّنَةِ أو أكْثَرَها، فإنْ لَمْ تَكُنْ سائِمةً فلا زكاةَ فيها، إلاَّ أنْ تكون للتجارةِ، وإن أعِدَّتْ للتَّكسُّب بالبيعِ والشراءِ والمُنَاقلةِ فيها فهي عروضُ تجَارةٍ تزكَّى زكاةَ تجارةٍ سواءٌ كانت سائمةً أوْ معلفة إذا بلغت نصابَ التجارةِ بِنَفْسِها أو بضَمِّها إلى تجارتِهِ. الثالثُ: الذِّهَبُ والفضةُ على أيِّ حالٍ كانتْ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } [التوبة: 34، 35]، والمُرَادُ بِكَنْزِهَا عَدم إنفاقِها في سبيلِ الله، وأعظَمُ الإِنفاق في سبيل الله إنفاقُها في الزَكاةِ. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَا مِنْ صاحِب ذهب ولا فضةٍ لا يُؤدّي منها حقَّها إلاَّ إذا كان يومُ القيامة صُفِّحَتْ له صفائحُ من نارِ فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جَنْبُه وجبيْنُه وظهْرُه كلَّمَا برَدتْ أعِيدتْ له في يومٍ كان مِقْدَارُه خمْسِين ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العباد». والمرادُ بِحقِّها زكاتُها كما تُفَسِّرُه الروايةُ الثانيةُ:[39] «ما مِنْ صاحِب كنْزٍ لا يؤدِّي زكاتَه» (الحديث). وتجب الزكاةُ في الذهبِ والفضَّةِ سواءٌ كانت نقُوداً أو تِبْراً أو حليَّاً يُلْبسَ أو يُعَارُ أو غيرَ ذلك، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة فيهما بدون تفصيل. فعن عبدِالله بن عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنْهما أنَّ امْرأةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم ومَعَهَا ابنةٌ لها وفي يد ابْنتِها مسكَتَان غليظتَان من ذهبٍ (أي سِوَارَان غليظَانِ) فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أتُعْطِينَ زكاةَ هذا؟ قالت: لا. قال: أيَسُرُّكِ أنْ يُسوِّركِ الله بهما يومَ القيامةِ سِوارينِ من نارٍ؟ قال: فَخَلَعَتْهُما فألقتها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقالت: هما لله ورسوله»، رواه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ والترمذيُّ. قال في بلوغِ المَرَامِ: وإسنادُه قويٌ. وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فرأى في يَدي فتخَاتٍ من وَرِقٍ (تعني من فِضةٍ) فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: مَا هَذَا؟ فقلتُ صَنَعْتُهنَّ أتَزيَّنُ لك يا رسول الله. قال: أتُؤدِّينَ زكاتَهن؟ قالتْ: لا. أوْ مَا شَاءَ الله. قال: هو حَسْبُكِ من النار»، أخرجه أبو داود والبيهقيُّ والحاكمُ وصححه وقال: على شرطِ الشَّيْخينِ، وقال ابنُ حَجَرٍ في التلخيصِ: على شرط الصحيح، وقال ابن دُقيقٍ: على شرطِ مسلمٍ. ولا تجبُ الزكاة في الذهب حتى يَبْلُغَ نصاباً وهو عِشْرون دِيْنَاراً لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال في الذهبِ: «ليس عليكَ شيءٌ حتى يكون لك عشرون دينارً»، رواه أبو داود[40]. والمراد الدينارُ الإِسلاميُّ الَّذِي يبلُغُ وزنُه مِثْقَالاً وزِنَهُ المثقالِ أرْبعةُ غراماتٍ وربْعٌ فيكونُ نصابُ الذهبِ خمسةً وثمانينَ غراماً يعادِلُ أحَدَ عَشَر جنيهاً سعودياً وثلاثةَ أسباعِ جُنيهٍ[41]. ولا تجبُ الزكاةُ في الفضةِ حتى تبلغَ نصاباً وهو خَمْسُ أواقٍ، لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «ليس فِيْما دونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صدقةٌ»، متفق عليه. والأوقيَّةُ أرْبعونَ درهماً إسلاميّاً، فيكونُ النصاب مائتي درهم إسلاميٍّ، والدرهمُ سبعةُ أعْشَار مثقالٍ فيبلُغُ مائةً وأربعينَ مثقالاً وهي خَمْسُمائةٍ وخمسةٌ وتسعون غراماً تُعَادل ستَّةً وخمسينَ ريالاً عربياً مِن الفضةِ، ومقدارُ الزَّكاةِ في الذهبِ والفضةِ ربعُ الْعُشر فقط. وتجبُ الزكاةُ في الأورَاقِ النَّقْدِيَّةِ لأنها بدلٌ عن الفضَّة فتقومُ مقامَها، فإذا بلغتْ نصابَ الفضةِ وجَبَتْ فيها الزَّكاةُ، وتجبُ الزكاةُ في الذهبِ والفضةِ والأوراقِ النقديةِ سواءٌ كانت حاضرةً عنده أمْ في ذِمَمِ الناس. وعلى هذا فتجبُ الزكاةُ في الدِّينِ الثابتِ سواءٌ كان قرضاً أمْ ثمَنَ مَبِيْع أمْ أجرةً أم غير ذلك، إذا كان على مَلَيء باذِلٍ فَيُزكِّيه مَعَ مَاله كلَّ سنةٍ أو يؤخر زكاتَه حتى يقبِضَهُ ثُمَّ يزكِّيهِ لكلِّ ما مضى من السِّنين، فإنْ كان على مُعْسِر أو مُمَاطلٍ يصعبُ اسْتخراجُه منه فلا زكاة فيه حتى يقْبِضَه فيُزَكِّيه سنَةً واحدةً سنةَ قبضِه ولا زكاةَ عليه فيما قبْلَها من السِّنِين. ولا تجبُ الزَّكاةُ فيما سِوى الذهب والفضةِ من المَعَادِن وإنْ كانَ أغْلَى منهما إلاَّ أنْ يكونَ للتجارةِ فيزكَّى زَكاةَ تِجارةٍ. الرابعُ: مما تجبُ فيه الزكاةُ عُرُوضُ التجارةِ وهي كلُّ ما أعدَّه للتَّكَسّبِ والتجارةِ من عقارٍ وحيوانٍ وطعام وشرابٍ وسياراتٍ وغيرها من جميع أصْناف المَال فيُقَوِّمُهِا كلَّ سَنةٍ بما تُسَاوي عند رأسِ الْحوْلِ ويُخْرجُ رُبْعَ عُشْر قِيْمتِها سواءٌ كانت قيمتُها بقدرِ ثَمَنِها الَّذِي اشتراها به أمْ أقلّ أمْ أكثرَ، ويجبُ على أهل البِقَالات والالاتِ وقِطَعِ الغيارات وغيرها أن يُحْصُوها إحصاءً دقيقاً شاملاً للصغير والكبير ويُخْرجوا زكاتَها، فإنْ شقَّ عليهم ذلك احْتاطُوا وأخرجوا ما يكون به براءةُ ذِمَمِهمْ. ولا زكاةَ فيما أعدَّه الإِنْسانُ لحاجتِه منْ طَعامٍ وشرابٍ وفُرُشٍ ومَسْكنٍ وحيواناتٍ وسيارةِ ولباسٍ سوى حُليِّ الذهب والفضةِ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «ليس على المُسْلِمِ في عبدِهِ ولا فَرسِه صدقةٌ»، متفق عليه. ولا تجبُ الزكاةُ فيما أعِدِّ للأُجرةِ من عقاراتٍ وسياراتٍ ونحوها وإنَّما تجبُ في أجْرَتها إذا كانت نقوداً وحالَ عليها الحولُ وبلغَتْ نصاباً بِنَفْسِها أوْ بِضَمِّها لما عندَه من جِنْسِها. إخواني: أدُّوا زكاةَ أموالِكم وطِيبُوا بها نَفْساً فإنها غُنْمٌ لا غُرْمٌ وربْحٌ لا خَسَارَةٌ، وأحْصوا جميعَ ما يلزمُكُمْ زكاتُه، واسْألُوا الله القبولَ لما أنْفقتُم والبركةَ لكم فيما أبْقَيْتُم، والحمدُ لله ربِّ العالمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجْمعين. -------------------------------------------------------------------------------- [39] أي عند مسلم. [40] في سنده ضعف لكن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن فيكون حجة. وقد أخذ به عامة أهل العلم. [41] ذكر لنا بعض الصاغة أن الغرامات الأربعة والربع خمسة وثمانون غراماً، وأن الجنيه السعودي ثمانية غرامات، وعليه فيكون النصاب عشرة جنيهات وخمسة أثمان جنيه. |
||||||||||
09-21-2008, 06:45 AM | #25 | ||||||||||
|
الحمدُ لله الَّذِي لا رافعَ لما وَضَعَ، ولا واضِعَ لما رفع، ولا مانِع لما أعْطَى ولا مُعْطِي لما منَع، ولا قاطعَ لما وَصَل ولا وَاصِل لما قَطَعَ، فسبحانَهُ من مُدَبِّرٍ عظيم، وإِله حكِيم رحيم، فَبِحكْمتِه وقعَ الضررُ وبرحمته نَفَع، أحْمَدُه على جميع أفْعَاله، وأشْكُرُه على واسِع إفضالِه، وأشْهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له أحْكَمَ ما شَرَعَ وأبْدَعَ ما صَنَع، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أرْسلَه والْكُفْرُ قد عَلاَ وارتفع، وصالَ واجْتمع، فأهْبَطَه من عَلْيائِه وقَمعَ، وفَرَّقَ من شَرِّه ما اجْتَمع، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ الَّذِي نَجمَ نَجْمُ شجاعَتِه يومَ الرِّدَّةِ وطَلَع، وعلى عُمَرَ الَّذِي عَزَّ به الإِسلامُ وامتنَع، وعلى عثمانَ المقتولِ ظلْماً وما ابْتَدَعَ، وعلى عليٍّ الَّذِي دحضَ الْكُفْرَ بجهادِهِ وقَمعَ، وعلى جميع آلِهِ وأصحابِه ما سَجَد مُصَلٍّ وركع، وسلَّم تسليماً. إخواني: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَـاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَـاكِينِ وَالْعَـامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَـارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 60]. في هذه الآيةِ الكريمةِ بيَّنَ الله تعالى مَصارفَ الزكاةِ وأهْلَهَا المسْتَحقينَ لها بِمُقْتَضَى عِلْمِه وحكمتِه وعَدْله ورحمتِه، وحَصَرها في هؤلاءِ الأصناف الثمانيةِ، وبيَّنَ أنَّ صرفَها فيهم فريضةٌ لازمةٌ وأنَّ هذه القِسْمَةَ صادرةٌ عن علمِ الله وحكمتِهِ، فلا يجوزُ تَعَدِّيها وصرفُ الزكاةِ في غيرِها؛ لأنَّ الله تعالى أعْلَمَ بمصالحِ خلقِه وأحكَمُ في وضْع الشَّيءِ في موضِعَه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [المائدة: 50]. فالصنف الأولُ والثاني: الفقراء والمساكين وهم الذين لا يجدون كِفَايتَهم، وكفايةَ عائلتهم لا مِنْ نقودٍ حاضِرةٍ ولا منْ رواتبَ ثابتةٍ ولا مِنْ صناعةٍ قائمةٍ ولا مِنْ غَلَّةٍ كافيةٍ ولا مِنْ نفقات على غيرهِم واجبة فهم في حاجةٍ إلى مواساةٍ ومعونةٍ. قال العلماءُ: فيعْطونَ مِنَ الزكاةِ ما يَكفيْهم وعائِلَتَهُمْ لمُدة سنةٍ كاملةٍ حتى يأتيَ حولُ الزكاةِ مرةً ثانيةً ويُعْطَى الفقيرُ لزواجٍ يحتاجُ إليهِ ما يَكْفِي لِزواجه، وطالبُ العلم الفقير لشراء كتب يحتاجها. ويعْطى منْ له راتب لا يكفيه وعائلته من الزكاة ما يُكمِّل كفايَتَهم لأنه ذو حاجة. وأمَّا من كان له كفايةٌ فلا يجوز إعطاؤه من الزكاةِ وإنْ سألَها؛ بل الواجبُ نُصحُه وتْحذِيرُه من سُؤالِ ما لا يحلُّ له، فعن عبدِالله بن عُمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «لا تَزَالُ المسْألةُ بأحَدِكُم حتى يَلْقَى الله عزَّ وجلَّ وليس في وجههِ مُزعةُ لحمٍ»، رواه البخاري. وعن أبي هريرةَ رضيَّ الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سأل الناسَ أموالَهم تكثُّراً فإنما يسأل جمراً فَلْيَسْتقِلَّ أو ليسْتكثْر»، رواه مسلم. وعَنْ حَكيمِ بنِ حزامٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال له: «إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حلوةٌ فمنْ أخَذَه بسَخاوةِ نَفْسٍ بُوركَ فيه، ومن أخذَه بإشراف نفْسٍ لم يباركْ له فيه وكان كالَّذِي يأكُلُ ولا يشْبع، واليَدُ العُلْيا خيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلى»، رواه البخاري ومسلم. وعن عبدالرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يَفْتَحُ عبْدٌ بابَ مَسْألةٍ إلاَّ فتحَ الله عليه بابَ فقر»، رواه أحمد[42]. وإن سأل الزكْاةَ شخصٌ وعليه علامةُ الغنى عنها وهو مجهولُ الحَال جاز إعطاؤه منها بعد إعْلامِه أنَّه لا حظَّ فيها لغَنيٍّ ولا لِقَويِّ مُكْتَسبٍ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أتاه رجُلان يَسْألانه فقَلَّبَ فيهما البَصَر فَرآهما جَلدَين فقال: «إنْ شئتُما أَعْطيتُكُما ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقَويٍّ مُكْتَسِبٍ»، رواه أحمدُ وأبو داود والنسائيُّ[43]. الصنفُ الثالثُ مِنْ أهلِ الزكاةِ: العامِلُون عليها وهم الذينَ ينصِّبُهم وُلاَةُ الأمورِ لِجبايةِ الزكاةِ من أهلها وحِفْظِها وتصريفِها، فيُعْطَون منها بقدرِ عملِهِم وإنْ كانوا أغنِياءَ، وأمَّا الوكلاء لفَردٍ من الناس في توزيعِ زكاتِه فليسوا من العامِلين عليها فلا يستحقونَ منها شيئاً من أجْلِ وَكالتهم فيها، لكِنْ إن تَبرَّعُوا في تفريقِها على أهلِها بأمانةٍ واجْتهادٍ كانوا شركاءَ في أجْرِها لما روى البخاريُّ عن أبي موسى الأشْعَريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الخازِنُ المسْلِمُ الأمينُ الَّذِي يُنَفِّذُ أو قال: يُعْطِي ما أُمِرَ به كاملاً موفَّراً طيِّباً به نَفْسُه فيدفَعُه إلى الَّذِي أمَر به أحدُ المُتصَدقِّين، وإنْ لم يتبرَّعوا بتَفرِيقِها أعْطاهُمْ صاحبُ المال من مالِه لا مِنَ الزكاةِ». الصنفُ الرابعُ: المؤلَّفَةُ قلوبُهم وهم ضعفاءُ الإِيْمانِ أو مَنْ يُخْشَى شَرُّهُمْ، فيُعْطَونَ مِن الزكاةِ ما يكونُ به تقوية إيمانم أوْ دفعُ شرهم إذا لم يندفع إلاَّ بإعطائِهِمْ. الصنفُ الخامسُ: الرقَابُ وهم الأرقاء المكاتُبون الَّذِين اشْتَروا أنْفُسَهُم لِيُحَرِّروا بذلك أنْفُسَهم، ويجوزُ أنْ يُشْترى عَبْدٌ فيُعْتَق وأنْ يُفَكَّ بها مُسْلِمٌ من الأسْرِ لأنَّ هذا داخلٌ في عموم الرِّقَاب. الصنفُ السادسُ: الغارِمُون الَّذِين يَتَحَمَّلُون غَرَامةً وهم نوعانِ: الأول: مَنْ تَحمَّلَ حَمَالةً لإِصْلاحِ ذاتِ الْبَيْنِ وإطْفَاءِ الفتنةِ فيُعْطَى من الزكاةِ بقَدْرِ حَمَالتِه تشجيعاً له على هذا العملِ النَّبيْلِ الَّذِي به تأليفُ المسلمين وإصلاحُ ذاتِ بَيْنِهم وإطفاءُ الفتنةِ وإزالة الأحْقَادِ والتنافرِ. وعن قبيصةَ الهلاليِّ قال: تحمَّلتُ حمالةً فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أسْألُه فيها فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إقِمْ حتى تأتِينَا الصدقةُ فَنَأمُرَ لك بها»، ثم قال: «يا قبيصةُ إنَّ المسألةُ لا تحِلُّ إلاَّ لأحَدِ ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً فحلَّتْ له المسألةُ حتى يصيبَها ثُمَّ يُمْسِكُ» وذكر تمام الحديث. رواه مسلم. الثاني: مَنِ تَحمَّل حمالةً في ذمتِه لنَفْسِه وليس عنده وفَاءٌ فيُعْطَى من الزكاةِ ما يُوفي به دينَه وإنْ كَثُر أو يُوفَى طَالِبُه وإنْ لم يُسلَّمْ للمطلوب؛ لأنَّ تسليمَه للطالبِ يحصُل به المقصودُ من تبْرِئَةِ ذمةِ المطلوب. الصنفُ السابعُ: في سبيلِ الله وهو الجهادُ في سبيل الله الَّذِي يُقْصَدُ به أنْ تكون كلمةُ الله هي العُلْيا لا لحميَّةٍ ولا لعصبيَّةٍ، فيُعْطَى المجاهدُ بهذه النِّيَّةِ ما يكْفِيهِ لِجِهادِهِ من الزكاةِ أوْ يُشْترى بها سلاحٌ وعَتَادٌ للمجاهدين في سبيلِ الله لحمايةِ الإِسْلامِ والذَّودِ عنه وإعلاءِ كلمةِ الله سبحانَه. الصنفُ الثامنُ: ابنُ السَّبِيْل وهو المسافُرِ الَّذِي انقطع به السَّفرُ ونَفَد مَا في يَدِه فيُعْطَى مِن الزكاةِ ما يُوصَلَه إلى بلدهِ وإنْ كان غنياً فيها وَوَجَدَ من يُقْرضُه، لكنْ لا يَجُوز أنْ يَسْتَصْحِبَ معه نفقةً قليلةً لأجْل أن يأخذ من الزكاة إذا نفدت، لأنها حيلةٌ على أخذ ما لا يستحق. ولا تُدْفَع الزكاةُ لكافر إلا أن يكونَ من المؤلَّفةِ قلوبهم، ولا تُدفع لِغَنيِّ عنها بما يكفِيه من تجارةٍ أو صناعةٍ أوْ حرفةٍ أوْ راتبٍ أوْ مَغَلِّ أو نفقةٍ واجبةٍ إلا أن يكون من العامِلينَ عليها أو المجاهِدينَ في سبيلِ الله أو الغَارمينَ لإِصْلاحَ ذاتِ البَيْن. ولا تُدْفَع الزكاةُ في إسقاطِ واجبٍ سِوَاها فلا تُدْفَع للضَّيْفِ بدلاً عن ضيافتِه، ولا لمن تجب نفقتُهُ من زوجةٍ أو قريبٍ بدلاً عن نفقتهما، ولا يجوز دفُعها للزوجةِ والقريبِ فيما سوى النفقةِ الواجبةِ، فيجوز أن يَقْضِيَ بها ديناً عن زوجتِه لا تَسْتَطِيعُ وفاءَه وأنْ يَقْضِيَ بها عن والِديْهِ أو أحدٍ منْ أقاربه ديناً لا يستطيعُ وفاءَه. ويجوز أن يدفعَ الزكاةَ لأقاربه في سَدادِ نَفَقَتِهم إذا لم تكنْ واجبة عليه لِكَوْنِ مالِه لا يَتَحمَّلُ الإِنفاقَ عليهم أو نحو ذلك. ويجوزُ دفعُ الزوجةِ زكاتَها لزوجها في قضاءِ دينٍ عليه ونحوه؛ وذلك لأنَّ الله سبحانَه علَّقَ استحقاقَ الزكاةِ بأوصافٍ عامة تشملُ من ذكرنا وغيرهم، فمن اتَّصفَ بها كان مستحقاً، وعلى هذا فلا يخرج أحَدٌ منها إلا بنص أو إجماع. وفي الصحيحين من حديث زيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ امْرَأة عبدِالله بن مسعودٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أمَرَ النِّساءَ بالصدقةِ فسَألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقالَتْ: يا رسولَ الله إنَّك أمَرْتَ بالصدقةِ وكان عندي حُلِيٌّ فأردتُ أنْ أتصدقَ به، فزَعم ابنُ مسعودٍ أنَّه وولَدَه أحَقُّ مَنْ تَصدَّقتُ به عليهم فقال النبيُّ : «صَدَقَ ابن مسعودٍ زوجُكِ وولَدُك أحقُّ مَنْ تصدَّقتِ به عليهم». وعن سلْمَانَ بنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصدقةُ على الفقيرِ صدقةً وعلى ذَوِي الرَّحَمِ صدقةٌ وَصِلَةٌ»، رواه النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ خزيمةَ والحاكمُ وقال: صحيحُ الإِسناد. وذوو الرَّحمِ هم الْقَرابَةُ قربُوا أمْ بَعُدُوا. ولا يجوز أن يُسْقِطَ الدَّيْنَ عن الفقير ويَنْويهُ عن الزكاةِ لأنَّ الزكاةَ أخْذٌ وإعطَاء. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [التوبة: 103]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله افْتَرَضَ عليهم صدَقةً تُؤخذُ مِنْ أغْنيائِهِم فَتُردُّ على فقرائِهم». وإسْقَاطُ الدَّيْنَ عن الفقير ليس أخذاً ولا رَدَّاً، ولأنَّ ما في ذمةِ الفقير دَيْنٌ غَائبٌ لا يَتَصَرَّفُ فيه فلا يجزأ عن مالٍ حاضرٍ يَتَصَرَّفُ فيه، ولأنَّ الدَّيْنَ أقلُّ في النَّفْسِ من الحاضرِ وأدْنَى فأداؤه عنه كأداءِ الرِدِيءِ عن الجيِّد. وإذا اجتهد صاحبُ الزَّكاةِ فَدَفَعَهَا لمنْ يَظُنُّ أنَّه من أهلِها فَتَبَيَّنَ بخلافِهِ فإنها تجزئُه؛ لأنَّه اتقى الله ما استطاعَ ولا يُكلِّف الله نفساً إلا وُسْعَها. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «قال رَجُلٌ: والله لأتَصَدَّقَّ (فَذَكَرَ الحديث وفيه) فَوَضَعَ صدقته في يد غَنِيٍّ فأصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُون تُصُدِقَ على غنِيٍّ فقال: الحمد لله على غَنِيٍّ فأُتِي فقيل أمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّه يَعْتَبِرُ فينْفقُ مما أعْطاه الله»، وفي رواية لمسلم: «أمَّا صدقتُكَ فقد تُقبِّلت». وعن مَعْن بن يزيدَ رضي الله عنه قال: كان أبي يُخْرجُ دنانيرَ يتصدقُ بها فوضعها عندَ رجُلٍ في المسجد، فجئت فأخَذْتُها فأتيتُه بها فقال: والله ما إيَّاك أَرَدْتُ فخاصَمته إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «لك ما نَوَيتَ يا يزيدُ ولك ما أخَذْتَ يا مَعْنُ»، رواه البخاريُّ. إخواني: إن الزكاةَ لا تجزأ ولا تقْبَلُ حتى توضع في المَحَلِّ الَّذِي وَضَعَها الله فيه فاجْتَهدوا رحمكم الله فيها، واحْرصُوا على أنْ تَقَع موقَعها وتَحِلَّ مَحلَّها لِتُبْرئوا ذِمَمَكُمْ وتُطَهِّروا أمْوَالَكُمْ وتُنَفِّذُوا أمْرَ ربِّكم وتُقْبَلَ صَدَقاتُكُمْ والله المُوَفِّقُ والحمد لله ربِّ العالمِينَ وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعينَ. -------------------------------------------------------------------------------- [42] روى نحوه الترمذي من حديث أبي كبشرة الأنماري وقال حسن صحيح. [43] قال أحمد: ما أجوده من حديث |
||||||||||
09-21-2008, 06:47 AM | #26 | ||||||||||
|
الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقَضى القضاءَ بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المنصورُ ببَدرٍ بالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين، وسلم تسليماً. إخواني: في هذا الشهرِ المُباركِ نصرَ الله المسلمينَ في غزوة بدرٍ الْكُبْرى على أعْدَائِهم المُشرِكينَ وسَمَّى ذلك اليومَ يومَ الفُرْقانِ؛ لأنَّه سبحانه فرَّقَ فيه بَيْنَ الحقِّ والبَاطِلِ بنَصْر رسولِهِ والمؤمنين وخَذْلِ الكفارِ المشركِين. كان ذلك في شهر رمضانَ من السَّنَةِ الثانية من الهِجْرةِ، وكان سببُ هذه الغزوة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بَلَغَهُ أنَّ أبا سفيانَ قد توجَّه من الشامِ إلى مكةَ بعيْرِ قريشٍ، فَدَعَا أصحابَه إلى الخروج إليه لأخْذِ العِيْرِ، لأنَّ قُريشاً حَربٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابِه ليس بَيْنَه وبينَهم عهْدٌ، وقد أخْرَجوهم من ديارِهم وأموالِهم وقامُوا ضِدَّ دعوتِهم دعوةِ الحقِّ، فكانُوا مُسْتَحقِّين لما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه بِعِيْرِهم. فخرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه في ثَلاثِمائةٍ وبضعةَ عَشَرَ رجُلاً على فَرسَين وسَبْعِين بَعِيراً يتعقبونها منهم سَبْعون رجُلاً من المُهَاجرين، والباقُون مِن الأنصارِ، يَقْصُدونَ الْعِيْرَ لا يريدونَ الْحَرْبَ، ولَكنَّ الله جمَعَ بينهم وبينَ عَدُوِّهم على غيرِ ميْعاد لِيَقْضيَ الله أمراً كان مفعولاً ويتمَّ ما أرَاد. فإن أبا سفيانَ عَلمَ بهم فبعثَ صارخاً إلى قُريشٍ يَستنجدُهم لِيحْمُوا عِيْرَهُمْ، وتَركَ الطريقَ المعتادةَ وسلكَ ساحلَ البحرِ فَنَجا. أما قريشٌ فإنَّه لما جاءهم الصارخُ خَرجُوا بأشْرافِهِم عن بَكْرَةِ أبِيهم في نحو ألفِ رجلٍ معهم مئةُ فرسٍ وسبعُمائة بَعِيرٍ {بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [الأنفال: 74] ومَعهَم الْقِيَانُ يُغَنِّينَ بهجاءِ المسلمينَ، فلما عَلِمَ أبو سفيانَ بخروجِهم بعثَ إليهم يُخْبرهُم بِنَجَاتِه، ويُشير عليهِم بالرجوعِ وعدم الْحَربِ، فأبَوْا ذلك وقال أبُو جهلٍ: والله لا نرجعُ حتى نبلُغَ بدراً ونُقِيمُ فيه ثَلاثاً، نَنْحَرُ الجُزُورَ، ونُطْعِمُ الطعامَ، ونسقِي الْخَمْرَ، وتسمعُ بنا العَرَبُ فلا يَزالون يهابونَنَا أبداً. أمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فإنه لما عَلِمَ بخروجِ قريشٍ جمعَ من معه من الصحابةِ فاستشارَهم وقال: إن الله قدْ وَعَدَني إحْدى الطائفتين إمَّا العيرَ أو الجيشَ، فقام المقْدَادُ بنُ الأسْودِ وكَان من المُهاجِرينَ وقالَ: يا رسول الله امْض لما أمرَكَ الله عَزِّ وجلِّ فوَالله لا نقُولُ كما قالتْ بنو إسْرائيلَ لمُوسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَـاهُنَا قَـاعِدُونَ } [المائدة: 24] ولكِنْ نقاتلُ عن يمينِك وعن شمالِك ومن بَيْنَ يَدَيْكَ ومن خَلْفِك، وقام سعدُ بنُ مُعَاذٍ الأنْصاريُّ سيِّدُ الأوْس فقال: يا رسول الله لعلَّكَ تَخْشَى أنْ تكونَ الأنصارُ تَرَى حقْاً عليها أن لا تَنصُركَ إلاَّ في ديارِهم وإني أقُولُ عن الأنْصارِ وأجيبُ عنهم فاظْعَنْ حيثُ شئتَ، وصِل حبل مَنْ شئتَ، واقطعْ حبْلَ مَنْ شئتَ، وخذْ من أموالِنا ما شئتَ، وأعطِنا منها ما شئتَ، ومَا أخَذْتَ منَّا كان أحَبَّ إلينا مما تركتَ، وما أمْرت فيه من أمْرٍ فأمْرُنا فيه تَبَعٌ لأمْرك، فوالله لَئِن سِرْتَ بناحتى تبلُغَ الْبركَ من غَمْدانَ لنَسيرنَّ معك، ولئن اسْتعرضتَ بنا هذا البَحْرَ فخضْتَه لنخُوضَنَّه معك، وما نَكرَهُ أنْ تكونَ تَلَقَى العدوَّ بنا غداً، إنَّنا لصبرٌ عند الْحَربِ، صِدْقٌ عند اللِّقاءِ، ولعلَّ الله يُريكَ منا ما تَقَرُّ به عَيْنُك. فسُرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لما سَمِعَ من كلامِ المهاجرينَ والأنصارِ رضي الله عنهم وقال: «سَيْرُوا وأبْشِرُوا فَوالله لَكَأنِّي أنْظُرَ إلى مَصارِعِ القومِ»، فَسَارَ النبي صلى الله عليه وسلّم بجنودِ الرحمنِ حتى نَزَلُوا أدنَى ماءٍ من مِيَاهِ بَدْرٍ، فقال له الْحبابُ بنُ المُنْذرِ بن عَمْرو بنِ الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المَنْزِلَ؟ أمَنْزلٌ أنْزَلَكَهُ الله ليس لنا أن نتقدمَ عنه أوْ نتأخر؟ أمْ هو الرَّأْيُ والْحَرْبُ والمَكيدةُ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: بل هو الرأْيُ والحربُ والمكيدةُ»، فقال: يا رسولَ الله إنَّ هذا ليس بمَنزِلٍ، فَانْهَضْ بنا حتى نَأتِيَ أدْنَى ماءٍ من القومِ فننزله ونُغَوِّر ما ورَاءه من الْقُلبِ ثم نَبْنِيَ عليه حوضاً فَنَمْلأه فنشربَ ولا يشربُونَ، فاسْتَحْسَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم هذا الرَّأيَ ونهض[44]، فنزلَ بالعْدُوَةِ الدُّنيا مما يلِي المدينةَ وقريشٌ بالْعُدْوةِ القُصْوى مما يلي مكةَ، وأنْزلَ الله تلك الليلة مطراً كان على المشركين وَابلاً شديداً وَوحَلاً زَلَقاً يمنعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاًّ طهرَهم ووطَّأ لهم الأرض وشَدَّ الرَّمْلَ ومَهَّدَ المَنْزِلَ وثَبَّتَ الأقدام. وبنى المسلمون لِرسول الله صلى الله عليه وسلّم عَريْشاً على تل مُشْرِفٍ على مَيْدَانِ الحرب ثم نَزَلَ صلى الله عليه وسلّم من الْعَريشِ فَسَوَّى صفوف أصْحابِه، ومشى في موضِع المَعْرَكةِ، وجعَل يُشيرُ بيدهِ إلى مصارعِ المشركينَ، ومحلاَّتِ قَتْلِهم يقولُ: هذا مصرعُ فلانٍ إنْ شاء الله، هذا مصرعُ فلانٍ، فما جاوزَ أحَدٌ مِنْهُمْ موضعَ إشارتِه، ثم نَظَرَ صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وإلى قُرَيْشٍ فقال: اللَّهُمَّ هذه قريشٌ جاءت بفَخْرِها وخُيَلائِها وخَيْلِها تُحادُّك وتكذّبُ رسولَك، اللَّهُمَّ نَصْركَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ انْجِزْ لي ما وعدتنِي، اللَّهُمَّ إني أنْشُدُك عَهْدَك ووَعْدَك، اللَّهُمَّ إنْ شئتَ لم تُعْبَدْ، اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هذه العِصَابَةُ اليومَ لا تُعْبَد، واستَنْصَرَ المسلمون رَبَّهُمُ واستغاثوه فاستجابَ لهم: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَـئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَـقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَـفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } [الأنفال: 12 -14]. ثُمَّ تقابَلَ الجَمَعانِ، وحَمِي الْوطِيسُ واستدارتْ رَحَى الحربِ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم في العَرِيشِ، ومعه أبو بكرٍ وسَعْدُ بنُ مُعاذٍ يحرسانه، فما زالَ صلى الله عليه وسلّم يُنَاشِدُ ربَّه ويسْتَنْصِرُهُ ويَسْتَغِيْثُه، فأغْفَى إغْفَاةً ثم خرج يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ» وحَرَّضَ أصحابَه على القتال وقال: والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ لا يقاتلُهُمُ اليومَ رَجُلٌ فَيَقْتَلُ صابراً مُحْتَسِباً مُقْبلاً غَيْرَ مُدْبر إلاَّ أدخله الله الجنّةَ. فقام عُمَيرُ بنُ الحِمَام الأنصاريُّ وبِيَدِه تَمَرات يأكُلُهُنَّ فقال: يا رسولَ الله جنة عَرْضُها السمواتُ والأرْضُ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: نَعَمْ. قال: بَخٍ بَخٍ يا رسولَ الله ما بَيْنِي وبَيْنَ أنْ أدخُل الجنةَ إلاّ أنْ يقتُلَني هؤلاءِ، لَئِنْ حِييتُ حتى آكُلَ تمراتِي هذهِ إنها لحَيَاةٌ طويلةٌ، ثم ألْقَى التمراتِ وقاتلِ حتى قُتِلَ رضي الله عنه. وأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم كفَّاً مِنْ تُرابٍ أو حصاً فرَمَى بها القومَ فأصابتْ أعْيُنَهم فما مِنْهم واحِدٌ إلاَّ مَلأتْ عيْنَه، وشُغلوُا بالتراب في أعْينهم آيةً من آياتِ الله عزَّ وجلَّ، فَهُزمَ جَمْعُ المشركين، ووَلَّوُا الأدْبارَ، واتَّبعهم المسلمون يقْتُلون ويأسرون. قَتْلُوا سَبْعينَ رجلاً وأسَروا سبعين. أمَّا الْقَتْلى فألْقِي منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً مِنْ صَنَاديدهِم في قليبٍ من قُلْبَانِ بَدْر، منهم أبو جهلٍ وشَيْبَةُ بنُ رَبيعةَ وأخوه عُتْبة وابنُه الوَليدُ بنُ عتبةَ، وفي صحيح البخاريِّ: عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم استقْبَل الكعبةَ فدَعَا على هؤلاء الأربعةِ قال: فأشْهَدُ بالله لقد رأيتُهم صَرْعَى قد غيَّرتهم الشَّمسُ وكان يوماً حاراً. وفيه أيضاً عن أبي طلحةَ رضي الله عنه أنَّ نَبيَّ الله صلى الله عليه وسلّم أمر يومَ بدرٍ بأربعةٍ وعشرينَ رَجُلاً من صناديدِ قريشٍ فَقُذِفُوا في طَويٍّ من أطْواءِ بدرٍ خبيثٍ مُخْبثٍ، وكان إذا ظَهَر على قوم أقَامَ بالعَرْصَةِ ثلاثَ لَيالٍ، فلما كان ببدرٍ اليومَ الثالَثَ أمَرَ برَاحِلتِه فشُدُّ عليها ثم مشَى واتَّبعَهُ أصحابُه حَتَّى قامَ على شَفَةِ الرَّكِيِّ فجعل يُنَادِيْهم بأسمائِهِم وأسماءِ آبائِهِم يا فلانُ بنَ فلانٍ ويا فلانُ بنَ فلانٍ أيَسُرُّكُمْ أنَّكُمْ أطْعتُمُ الله ورسولَه، فإنا قد وَجَدْنَا ما وَعَدنَا ربُّنا حقَّاً فهل وجَدْتُم ما وَعَدَكُمْ ربُّكم حقَّاً؟ قال عُمَرُ: يا رسولَ الله مَا تُكلِّمُ مِنْ أجْسَادٍ لا أرواحَ لها؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدِه ما أنْتُم بأسْمَعَ لما أقولُ منهم». وأمَّا الأسْرَى فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اسْتَشارَ الصحابةَ فيهم، وكان سعدُ ابن مُعاذٍ قد ساءَه أمْرُهُمْ وقال: كانتْ أوَّل وَقْعَةٍ أوْقَعها الله في المشركينَ وكان الإِثْخَانُ في الْحَربِ أحبَّ إليَّ من اسْتِبْقَاءِ الرِّجالِ. وقال عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم: أرَى أنْ تُمَكِّنَنا فنضربَ أعْنَاقَهم فتُمَكِّن عليَّاً من عَقِيْل فيضربَ عنقَه، وتمكِّنَنِي من فلانٍ يعنِي قريباًله فأضْرِبَ عنقَه، فإنَّ هؤلاء أئِمَّةُ الْكُفْرِ وصناديدُها. وقال أبو بَكْرٍ رضي الله عنه: هم بَنُو الْعِمِّ والعَشيْرةُ، وأرَى أن تأخُذَ منهم فِدْيةً فتكونُ لنا قُوةً على الكفارِ، فعسى الله أنْ يهديَهُم للإِسلامِ، فأخَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الفدية، فكان أكْثَرهم يفْتَدِي بالمَالِ مِنْ أربعةِ آلافِ درهمٍ إلى ألْفِ درهمٍ، ومنهم مَنْ افْتدى بتعليمِ صِبْيَانِ أهْلِ المدينةِ الكِتابَةَ والقِراءة، ومنهم مَنْ كان فِداؤُهُ إطْلاَقَ مأسورِ عند قريشٍ من المسلمينَ، ومنهم منَ قَتَله النبيُّ صلى الله عليه وسلّم صبراً لِشدَّةِ أذيِّتِه، ومنهم مَنْ مَنَّ عليه بدونِ فداءٍ لِلْمَصْلَحَةِ. هذه غزوةُ بدرٍ انتصَرَتْ فيها فِئَةٌ قليلةٌ على فئةٍ كثيرةٍ {فِئَةٌ تُقَـتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } [آل عمران: 13]. انتصرت الفئةُ القليلةُ لأنها قائمةٌ بدِينِ الله تُقَاتِلُ لإِعْلاءِ كَلِمَتِهِ والدِّفاع عن ديْنِه، فنصَرَها الله عزَّ وجلَّ. فقومُوا بدِيْنِكَم أيُّها المسلمونَ لتُنْصَروا على أعدائِكم، واصْبِرُوا وصَابِرُوا وَرَابِطُوا واتقوا الله لعلَّكُمْ تفلِحُون. اللَّهُمَّ انْصُرْنا بالإِسلامِ واجعلنا من أنصارِهِ والدعاةِ إليه وثبِّتَنا عليه إلى أن نلْقَاكَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين. -------------------------------------------------------------------------------- [44] هذه القصة أعني نزولهم أدنى ماء من مياه بدر وإشارة الحباب ضعيفة جداً سنداً ومتناً. |
||||||||||
09-21-2008, 06:48 AM | #27 | ||||||||||
|
الحمدُ لله الَّذِي خلق كلَّ شَيْء فَقَدَّرَه، وعلِمَ مَوْردَ كلِّ مخلوقٍ ومصْدَرَه، وأثْبَتَ في أمِّ الكتاب ما أرَادَه وسَطَّره، فلا مُؤخرَ لِمَا قدَّمَه، ولا مُقَدِّم لما أخَّرَه، ولا ناصرَ لمَنْ خَذلَهُ ولا خاذِلَ لِمَنْ نَصَره، تفرَّد بالمُلْكِ والبقاءِ، والعزَّةِ والكبرياء، فمَنْ نازَعه ذلك أحْقَرَه، الواحدُ الأحَدُ الربُّ الصَّمَد، فلا شريكَ له فيْمَا أبْدَعَه وفَطَرَه، الحيُّ القَيُّومُ فما أقْومَهَ بشُؤُونِ خلْقِه وأبْصَرَه، العليمُ الخبيرُ فلا يخْفَى عليه ما أسَرَّه العبدُ وأضْمَرَه، أحْمَدُه على ما أوْلَى مِنْ فضلِهِ ويَسَّرَه. وأشْهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ، قَبِلَ تَوْبةَ العاصِي فعفَا عن ذَنْبِه وغَفَرَه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي أوْضَح به سبيلَ الهدايةِ ونَوَّرَه، وأزال به ظلماتِ الشِّرْكِ وقَتَرَه، وفَتحَ عليه مَكَّةَ فأزَال الأصنامَ مِن الْبَيْتِ وَطَهَّرَه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه الكرامِ الْبَرَرَة، وعلى التابعينَ لهم بإحْسَانٍ ما بَلَغَ القَمَرُ بدرَه وسَرَرَه، وسلَّم تسليماً. إخواني: كما كان في هذا الشهرِ المباركِ غزوةُ بدْرٍ الَّتِي انتصر فيها الإِسْلامُ وعلا منارُه، كان فيه أيضاً غزوةُ فتْحِ مكةِ البلدِ الأمينِ في السَّنَةِ الثامِنَةِ من الْهِجرَةِ فأنقَذَه الله بهذا الفتحِ العظيمِ مِنَ الشركِ الأثِيم، وصار بلداً إسلامياً حَلَّ فيه التوحيدُ عن الشِّرْكِ، والإِيْمَانُ عن الكُفْرِ، والإِسلامُ عن الاسْتِكْبَار، أعلِنَتْ فيه عبادةُ الواحدِ الْقَهَّار، وكُسِرَتْ فيه أوْثانُ الشركِ فمَالها بعْدَ ذَلِكَ انْجِبَار، وسَبَبُ هذا الفتحِ العظيمِ أنَّه لما تَمَّ الصلْحُ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبَيْنَ قريشٍ في الحُديْبيّةِ في السَّنَةِ السَّادسةِ كان مَنْ أحَبَّ أنْ يدْخُلَ في عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلّم فَعلَ، ومَن أحبَّ أنْ يدخُلَ في عهدِ قريشٍ فَعَلَ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ في عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلّم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بَيْنَ القبيلتَين دماءٌ في الجاهليَّة فانْتَهَزَتْ بنو بكرٍ هذه الهُدنَةَ فأغَارتْ على خزاعةَ وهم آمِنُون، وأعَانَتْ قريشٌ حُلَفَاءها بَنِي بكرٍ بالرجالِ والسِّلاحِ سِرّاً على خزاعةَ حلفاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فقدِم جماعةٌ منهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فأخبروهُ بما صنعت بنو بكر وإعانة قريش لها. أما قريش فسُقِط في أيدِيْهم ورَأوْا أنّهُمْ بِفِعْلِهم هذا نَقَضَوا عَهْدهم، فأرسَلُوا زعيمهم أبَا سُفْيَانَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيْدَ في المُدَّة، فَكَلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في ذلك، فلم يَرُدَّ عليه ثم كلَّمَ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ لِيَشْفَعَا له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يُفْلِحْ، ثم كَلَّمَ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ فلم يُفلحْ أيْضاً، فقال له: ما تَرَى يَا أبا الحَسَنِ، قال: ما أرَى شَيْئاً يُغْنِي عنك ولَكنَّك سَيِّدَ بنِي كِنَانَةَ فَقُمْ فأجِرْ بَيْنَ الناس، قال: أتَرَى ذلك مُغْنِياً عني شيئاً، قال: لا والله ولَكِنْ ما أجِدُ لك غَيَره، فَفَعَل أبو سفيانَ، ثم رَجَعَ إلى مكة فقالتْ له قريشُ: ما وَرَاءَكَ؟ قال: أتَيْتُ محمداً فكَلَّمْتُه فوَالله ما رَدَّ عَليَّ شَيْئاً، ثم أتَيْتُ ابن أبي قُحافةَ وابنَ الخطاب فلم أجدُ خيراً، ثم أتيتُ علِيَّاً فأشارَ عَليَّ بشيء صنَعْتُه أجَرْتُ بَينَ النَّاسِ، قالوا: فهل أجاز ذلك مُحمدٌ؟ قال: لا. قالوا: وَيْحَكَ، ما زادَ الرَّجُلُ (يعْنُون عليّاً) أنْ لَعِبَ بك. وأمّا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فقد أمر أصحابَه بالتَّجَهُّزِ لِلْقتالِ، وأخْبرهم بما يُريد واستَنْفَرَ مَنْ حولَه من القبائلِ وقال: اللَّهُمَّ خُذِ الأخبارِ والْعُيونَ عَنْ قريشٍ حتى نَبْغَتَها في بلادِها، ثم خرَجَ من المدينةِ بنحو عَشَرةِ آلاف مُقَاتِلٍ، وَوَلَّى على المدينةِ عَبْدَالله بنَ أمِّ مَكْتُومٍ ولما كانَ في أثْنَاءِ الطريق لَقِيَهُ في الْجُحْفَةِ عَمُّهُ العَبَّاسُ بأهْلِهِ وعيالِه مهاجراً مُسْلماً، وفي مَكَانٍ يُسَمَّى الأبْواءَ لقيه ابن عَمّه أبو سفيانَ بنُ الحارثِ ابنُ عَبْدِالمُطَّلِبِ وابنُ عَمَّتِهِ عبدُالله بنُ أبي أمَيَّةَ، وكانا من أشَدِّ أعْدائِه فأسْلَمَا فَقَبِل منهما، وقال في أبي سفيانَ: أرجو أنْ يكونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَةَ. ولمَّا بلغ صلى الله عليه وسلّم مكاناً يُسَمَّى مَرَّ الظَّهْرَانِ قريباً مِنْ مكةَ أمَرَ الْجَيْشَ فأوْقَدُوا عَشَرَةَ آلاف نارٍ، وجَعل على الْحرس عُمَرَ بنَ الخطابِ رضيَ الله عنه، وَرَكِبَ العباسُ بَغْلَةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لِيلْتَمِسَ أحَداً يُبَلِّغِ قريشاً لِيَخْرُجوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فيطلبوا الأمانَ منه ولا يحصُل القتالُ في مكةَ البلدِ الأمينِ، فَبَيْنَمَا هو يَسِيرُ سَمِع كلامَ أبي سفيانَ بن حرب يقول لِبُدَيلِ بن وَرْقَاءَ: ما رأيتُ كاللَيلةِ نِيراناً قطُّ فقال بُديْلٌ: هذه خزاعَةُ، فقال أبو سفيان: خزاعةُ أقل من ذلك وأذلُّ فعرف العباسُ صوت أبي سفيانَ فنَادَاه فقال: مالك أبَا الْفَضْلِ؟ قالَ: هذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم في الناسِ قال: فما الحيلَةُ؟ قالَ العباسُ: ارْكَبْ حَتَّى آتِيَ بك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فأسْتأمِنَه لك، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقال: وَيْحَكَ يا أبا سفيانَ أمَا آنَ لكَ أنْ تَعْلَمَ أن لا إِله إلاّ الله؟ فقال: بأبِي أنتَ وأمِّي ما أحْلَمَكَ وأكرَمَك وأوْصَلَكَ لَقَدْ علمْتُ أنْ لَوْ كانَ مع الله غَيْرهُ لأغْنَى عنِّي، قال: أمَا آنَ لك أنْ تَعْلَم أنَّي رسولُ الله؟ فَتَلَكَّأ أبوُ سفيانَ، فقالَ له العباسُ: وَيْحك أسْلِمْ فأسْلَمَ وشَهدَ شهادةَ الحَقِّ. ثم أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم العباسَ أن يُوْقِفَ أبا سفيانَ بِمَضَيقِ الْوَادي عِنْد خَطْم الْجَبَل حَتَّى يمُرَّ به المسلمون، فَمَرَّتْ به الْقَبَائِلُ على رَايَاتِها ما تَمُرُّ به قَبيلةٌ إلاَّ سَأل عنها العَبَّاسَ فيُخْبِرُهُ فيقولُ: ما لي وَلَهَا حَتَّى أقْبَلَتْ كَتِيبةٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فقال: مَنْ هَذِهِ؟ قال العباسُ: هؤلاءِ الأنْصارُ عليهم سَعدُ بنُ عُبَادَةَ معه الرَّايةُ فلما حاذَاه سُعدٌ قال: أبا سفيان اليومُ يومُ الملحمةِ اليومَ تستحلُّ الكعبة، ثم جاءت كتِيْبَةٌ وهي أقلُّ الكتائبِ وأجَلُّها فيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم وأصْحَابُه ورَايَتُه مع الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ، فَلَّما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأبي سفيان أخْبَرَه بِمَا قال سعْدٌ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «كَذَبَ سَعْدٌ ولكِنْ هذا يومٌ يُعَظِّمُ الله فيه الْكَعْبةَ ويومٌ تكْسَى فيه الْكَعْبَة»[45]. ثمَّ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أنْ تُؤْخَذَ الرَّايةُ من سَعْدٍ وتُدفَعَ إلى ابْنِهِ قَيْسٍ ورأى أنَّها لم تَخرُج عن سعْدٍ خروجاً كاملاً إذ صارت إلى ابنِه، ثم مضَى صلى الله عليه وسلّم وأمَرَ أن تُرْكَزَ رايتُه بالْحَجُونِ ثُمَّ دَخَلَ مكةَ فاتحاً مُؤَزَّراً منصوراً قد طأطأ رأسَه تَواضُعاً لله عزَّ وجلَّ حَتَّى إنَّ جبْهَتَه تَكَادُ تَمسُّ رَحْلَه وهو يَقْرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } [الفتح: 1] ويُرَجِّعُهَا وبعثَ صلى الله عليه وسلّم على إحدى المَجْنَبَتين خالدَ بنَ الْوَلِيدِ وعلى الأخْرَى الزُّبيرَ بنَ العَوَّامِ وقال: مَنْ دَخَلَ المسجد فهو آمِنٌ، ومَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ، ومن دخلَ بيْتَه وأغْلَقَ بابَه فهو آمِنٌ، ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى المَسْجِدَ الْحَرَامَ فطافَ به على راحِلَتِهِ وكان حوْلَ البيتِ ستون وثَلاثُمائَةِ صَنَم، فَجَعَلَ صلى الله عليه وسلّم يطْعُنُها بقَوْس معه ويُقول: {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ إِنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [الإِسراء: 81] {جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَـاطِلُ وَمَا يُعِيدُ }[46] [سبأ: 49]، والأصنامُ تَتساقَطُ على وجوهِها، ثم دَخَلَ صلى الله عليه وسلّم الكعبة فإذَا فيها صورٌ فأمَرَ بها فَمُحِيَتُ ثم صلَّى فيها فلَّما فرغَ دَارَ فيها وكبَّرَ في نَواحِيْها وَوَحَّدَ الله عزَّ وجلَّ، ثُمَّ وَقَفَ على باب الكعبةِ وقُريشٌ تَحْتَه ينْتَظِرُون ما يَفْعَلُ، فأخذَ بعِضَادَتِي الباب وقال: لا إِله إِلاَّ الله وحدَّه لا شريكَ له، لَهُ المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كَلِّ شَيْءٍ قديرٌ، صَدَقَ وَعْدَه ونَصرَ عَبْدَه وهَزمَ الأحزابَ وحْدَه، يا مَعْشَر قُريش إنَّ الله قد أذهَبَ عَنكم نَخَوَةَ الجاهِليَّةِ وتَعَظُّمَها بالآباءِ، الناسُ مِنْ آدمَ وآدمُ من تُرابٍ {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَـاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَـارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَـكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13]. يا مَعْشرَ قريشٍ، ما تَظُنُّونَ أني فاعِلٌ بكُمْ؟ قالوا: خيراً أخٌ كرِيمٌ، وابنُ أخٍ كريم، قال: فإنِّي أقُول لكم كما قال يوسفُ لإخوَتِه {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ } [يوسف: 92] أذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاء[47]. ولما كان اليومُ الثاني من الفتح قام النبيُّ صلى الله عليه وسلّم خطيباً في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حرم مكة ولم يحرمْها الناس فلا يحلٌ لأمرئ يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يسفكَ بها دماً ولا يعضدَ بها شجرةً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقولوا: إن الله أذنَ لرسولِه ولم يأذنْ لكم وإنما أذنَ لي فيها ساعةً من نهارٍ، وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتِها بالأمس، فَلْيُبَلِّغ الشاهدُ الغائب[48]. وكانت الساعةُ التي أُحلِّتْ فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم من طلوعِ الشمس إلى صلاةِ العصرِ يومَ الفتح[49]ِ، ثم أقامَ صلى الله عليه وسلّم تسعةَ عشرَ يوماً بمكةَ يقصرُ الصلاةَ ولم يصمْ بقيةَ الشهرِ[50] لأنه لم ينوِ قطعَ السفرِ. أقامَ كذلك لتوطيدِ التوحيدِ ودعائمِ الإِسلام وتثبيتِ الإِيمان ومبايعةِ الناسِ. وفي الصحيح عن مجاشع قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بأخي بعد الفتح ليبايعَه على الهجرةِ فقال صلى الله عليه وسلّم: ذهبَ أهلُ الهجرةِ بما فيها ولكنْ أبايعَه على الإِسلامِ والإِيمانِ والجهادِ. وبهذا الْفَتـحِ المُبِين تمَّ نصـرُ الله ودخل الناس في دينِ الله أفواجاً، وعادَ بلدُ الله بلداً إسلاميَّاً أعْلِنَ فيه بتَوْحِيْدِ الله وتصديق رسولِه وتحكيم كتابِه، وصارتِ الدولَةُ فيه لِلْمُسْلمينِ، وانْدَحَرَ الشركُ وتَبَدَّدَ ظلامُه، واللهُ أكبرُ وللهِ الْحَمْدُ وَذَلِكَ مِنْ فضلِ الله على عبادِه إلى يوم القيامةِ. اللَّهُمَّ أرزُقْنا شُكْرَ هذه النعمةِ العظيمةِ، وحقِّق النِّصر للأمَّةِ الإِسلاميةِ كلَّ وقتٍ في كلِّ مكانٍ، واغفِرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرحَمَ الراحمينَ وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين. -------------------------------------------------------------------------------- [45] رواه البخاري من قوله: ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس. [46] رواه مسلم. [47] هذه القصة من قوله ثم وقف على باب الكعبة من زاد المعاد وغيره من كتب السيرة. وكلمة: الطلقاء وردت في صحيح البخاري في غزوة الطائف قال في فنح الباري: والمراد بالطلقاء - جمع طليق- من حصل من النبي صلى الله عليه وسلم المن عليه يوم فتح مكة من قريش وأتباعهم. [48] رواه البخاري. [49] رواه أحمد. [50] رواه البخاري مفرقاً |
||||||||||
09-21-2008, 06:49 AM | #28 | ||||||||||
|
الحمدُ لله العظيمِ في قَدْرِه، العزيزِ في قهْرِه، العالمِ بحالِ العَبْدِ في سِرِّه وجَهْرِه، الجائِدِ على المُجَاهدِ بِنَصْرِه، وعلى المتَواضِعِ من أجْلِهِ بِرَفْعِه، يسمعُ صَريفَ القلمِ عند خطِّ سَطْرِه، ويرى النَّملَ يدبُّ في فيافي قَفْرِه، ومِن آياتِه أنْ تقوم السَماءُ والأرضُ بأَمْرِه، أحْمَدُهُ على القَضَاءِ حُلْوِه ومُرِّه، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له إقامةً لِذْكْرِهِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ بالبِرِّ إلى الخلْقِ في بّره وبَحْرِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِه أبي بكرٍ السابقِ بما وَقَرَ من الإِيمانِ في صَدْرِه، وعلى عُمَر مُعزِّ الإِسلامِ بَحَزْمِه وقهرهِ، وعلى عثمانَ ذِي النُّورَينِ الصابِر من أمره على مُرِّه، وعلى عليٍّ ابن عمِّه وصِهْرِه، وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما جاد السحابُ بقطْرِه، وسلَّم تسليماً. إخواني: لقد نصرَ الله المؤمنينَ في مَواطنَ كثيرةٍ في بدرٍ والأحزابِ والفتحِ وحُنينٍ وغيرها، نصرَهُمُ اللهُ وفاءً بِوَعدِه {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } [الروم: 47] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى الْحَيَاوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاَْشْهَـادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّـلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر: 51، 52]. نَصرَهُمُ اللهُ لأنهم قائمونَ بدينِه وهو الظَّاهرُ على الأديانِ كلِّها، فمن تمسك به فهو ظاهرٌ على الأممِ كلِّها {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33]. نصَرَهم اللهُ تعالى لأنهم قاموا بأسبابِ النصرِ الحقيقيَّةِ المادَيةِ منها والمَعْنَويةِ، فكان عندهم من العَزْمِ ما بَرَزُوا به على أعْدائهم أخذاً بتوجيه اللهِ تعالى لَهُم وتَمشِّياً مع هديهِ وتثبيتِه إياهم {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران: 139، 140] {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء: 104] {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَـالَكُمْ * إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } [محمد: 35، 36]. فَكانوا بهذِه التَّقْويَةِ والتثبيتِ يَسِرونَ بِقُوةٍ وعزْمٍ وجِدٍّ وأخَذُوا بكِلَّ نصيبٍ من القُوة امتثالاً لقولِ ربِّهم سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } [الأنفال: 60] من القُوَّةِ النفسيةِ الباطنةِ والقوةِ العسكريةِ الظاهرة. نصرهم الله تعالى لأنهم قامُوا بنصر دينِه {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَآتَوُاْ الزَّكَـوةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـقِبَةُ الاُْمُورِ } [الحج: 40، 41]. ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعدَ اللهُ بالنصر من ينصرُه وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومَعنوية، أما المؤكدات اللفظية فهي القسمُ المقدَّرُ لأنَّ التقديرَ واللهِ لينصرنَّ اللهُ مَنْ ينصرُهُ وكذلك اللامُ والنونُ في «وَلَيَنصُرَنَّ » كلاهُما يفيدُ التوكيدَ، وأمَّا التوكيدُ المعنويُّ ففي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } فهو سبحانه قَويٌّ لا يضْعُفُ وعزيزٌ لا يُذَلُّ وكلُّ قوةٍ وعزةٍ تُضَادُّهُ ستكونُ ذُلاً وضعفاً وفي قولِه: {وَلِلَّهِ عَـاقِبَةُ الاُْمُورِ } تثبيتٌ للمؤمِنِ عندما يسْتَبعِدُ النصر في نَظَره لِبُعد أسبابِه عندَه فإنَّ عواقبَ الأمورِ لله وحْدَهُ يغَيِّر سبحانَه ما شاءَ حَسْبَ ما تَقْتَضِيه حكمَتُه. وفي هاتين الايتين بيانُ الأوْصافِ التي يُستحقُّ بها النصرُ وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ التمكين في الأرضِ، فلا يُغْرِيه هذا التمكينُ بالأشَرِ والْبَطرِ والعلوِّ والفسادِ، وإنما يَزيدُه قوةً في دين الله وتَمسُّكاً به. الوصفُ الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ } [الحج: 41] والتمكينُ في الأرض لا يكونُ إلاّ بعْدَ تحقيق عبادةِ الله وحْدَه كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً } [النور: 55]. فإذا قام العبدُ بعبادَةِ الله مخلصاً له في أقْوَالِه وأفعالِه وإرادَتِه لا يريدُ بها إلا وجه الله والدار الاخرة ولا يريد بها جاهاً ولا ثناءً من الناسِ ولا مالاً ولا شيئاً من الدُّنيا، واستمَرَّ على هذِه العبادة المخْلصة في السَّراء والضَراءِ والشِّدةِ والرَّخاءِ، مكَّنَ الله له في الأرض. إذَنْ فالتمكينُ في الأرضَ يستلزمُ وصفاً سابقاً عليه وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له. وبعد التمكين والإِخلاص يَكُونُ: الوصفُ الثاني: وهو إقامةُ الصلاةِ بأن يؤدِّيَ الصلاة على الوجهِ المطلوب منه قائماً بشروطِها وأركانِها وواجباتِها وتمامُ ذلك القيامُ بمُسْتَحَبَّاتِها، فيحسنُ الطُّهورَ، ويقيمُ الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ، ويحافَظُ على الوقتِ وعلى الجمعةِ والجماعاتِ، ويحافظُ على الخشوعِ وهو حضورُ القلبِ وسكونُ الجوارح، فإِنَّ الخشوعَ رُوحُ الصلاةِ ولُبُّها، والصلاةُ بدونِ خشوعٍ كالجسمِ بدون روحٍ، وعن عمار بن ياسرٍ رضي الله عنه قال سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «إنَّ الرجل لينصرفُ وما كتِب له إلاَّ عُشْرُ صلاتِهِ تُسْعُها ثُمنْها سُبْعُها سُدسُها خُمْسُها ربْعُها ثلْثُها نصفها»، رواه أبو داود والنسائي[51]. الوصفُ الثالث: إيتاءُ الزكاةِ {وَآتُواْ الزَّكَوةَ } بأن يعْطوُهَا إلى مستحقِّيها طِّيبةً بها نفوسُهم كاملةً بدونِ نقصٍ يبتغُون بذلك فضلاً من الله ورضواناً، فيُزكُّون بذلك أنفسَهُم ويطهِّرون أموالَهم وينفعونَ إخوانهم من الفقراءِ والمساكينِ وغيرهم من ذوي الحاجات، وقد سبقَ بيانُ مُسْتحِقَّي الزكاةِ الواجبةِ في المجلِسِ السابعَ عَشر. الوصفُ الرابعُ: الأمر بالمعروفِ {وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ } والمعروفُ كلُّ ما أمرَ اللهُ به ورسولُه من واجباتٍ ومستحبات، يأمرون بذلك إحياءَ لشريعةِ اللهِ وإصلاحاً لعباده واستجلاباً لرحمتِهِ ورضوانِهِ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيِان يشدُ بعضُه بعضاً، فكما أنَّ المؤمنَ يحبُّ لنفسِهِ أَنْ يكونَ قائماً بطاعَةِ ربِّه فكذلك يجبُ أن يحبَّ لإِخوانِه من القيام بِطاعةَ الله ما يحبُّ لنفسه، والأمرُ بالمعروفِ عن إيمانٍ وتصديقٍ يستلزمُ أن يكونَ الامرُ قائماً بما يأمرُ به لأنه يأمرُ به عن إيمانٍ واقتناعٍ بفائدتِهِ وثمراتِهِ العاجلة والآجلةِ. الوصفُ الخامسُ: النَّهيُ عن المنكرِ {وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ } والمُنْكَرُ كلُّ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه من كبائر الذنوبِ وصغائِرِها مما يتعلقُ بالعبادةِ أو الأخلاقِ أو المعاملةِ ينْهونَ عن ذلك كلِّه صِيانةً لدينِ الله وحمايةً لِعباده واتقاءً لأسْبابِ الفسادِ والعقوبةِ. فالأمرُ بالمعروفِ والنَهْيُ عن المنكر دعَامَتَانِ قَوِيَّتانِ لبقاءِ الأمَّةِ وعزتِها ووحْدَتِها حتى لا تتفرَّق بها الأهواءُ وتَشَتَّتَ بها المسالكُ، ولذلك كانَ الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر من فرائِضِ الدين على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مع القدرةِ {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَـاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 104، 105]. فَلَوْلا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر لتَفَرَّق الناسُ شِيعاً وتمزَّقوا كل ممزَّق كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فرحون، وبه فُضِّلت هذه الأمةُ على غيرها {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران: 110]. وبتَركه {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَـاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المائدة: 78، 79]. فهذه الأوصافُ الخمسةُ متى تحقَّقتْ مع القيامِ بما أرشدَ الله إليه من الْحَزمِ والعزيِمَةِ وإعْدادِ القُوَّةِ الحسيَّة حصل النصرُ بإذنِ الله {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاَْخِرَةِ هُمْ غَـفِلُونَ } [الروم: 6، 7]. فيَحْصَلُ للأمَّةِ من نصْر الله ما لَمْ يخْطُرْ لهم على بالٍ، وإن المؤمنَ الواثقَ بوعدِ الله ليَعْلمُ أنَّ الأسباب المادِّيةَ مَهْما قويَتْ فليستْ بشيء بالنسبةِ إلى قُوةِ الله الذي خلقها وأوْجَدَها، افْتَخَرَتْ عادٌ بقوَّتِها وقالُوا منْ أشدُّ منا قوةً فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِـَايَـاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } [فصلت: 15، 16]. وافْتَخر فرعونُ بمُلكِ مصْرَ وأنْهَاره التي تْجري مِنْ تحته فأغرقَه الله بالماءِ الَّذِي كان يفْتَخرُ بِمثْلِهِ وأوْرث مُلْكهُ مُوسى وقومَه وهو الَّذِي في نظر فرعونَ مَهِيْن ولاَ يكادُ يُبِين، وافتَخرت قريشٌ بعظَمتها وَجَبروتِها فخرجوا من ديَارِهم برؤسائِهم وزعمائِهم بطراً ورِئاءَ الناس يقولون لا نَرْجعُ حتى نقدمَ بَدْراً فننحرَ فيها الجزور ونَسْقِيَ الخمورَ وتعزفَ الْقِيانُ وتسمعَ بنا العربُ فلا يزالُون يهابوننَا أبداً. فَهُزمُوا على يد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه شرَّ هزيمةٍ، وسُحبت جثثُهم جِيفاً في قليبِ بدرٍ، وصاروا حديثَ الناس في الذُّلِّ والهوانِ إلى يوم القيامةِ. ونحنُ المسَلمين في هذا العصرِ لو أخَذْنَا بأسباب النصرِ وقُمْنَا بواجبِ دينِنا وكنَّا قدوةً لا مُقْتَدين ومتبوعِين لا أتباعاً لِغَيرنا وأخَذْنَا بوسائِل الحرب الْعَصْريَّةِ بصدقٍ وإخلاصٍ لنصَرنَا الله على أعدائنا كما نصر أسلافَنا. صدقَ الله وعْدَه ونصر عَبْدَه وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [الفتح: 23]. اللَّهُمَّ هييء لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا ورفعةُ الإِسلام وذُل الكفرِ والعصيانِ إنك جوادٌ كريمُ وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمَعين. -------------------------------------------------------------------------------- [51] قال العراقي إسناده صحيح |
||||||||||
09-21-2008, 06:50 AM | #29 | ||||||||||
|
الحمدُ لله المتفردِ بالجلالِ والبقاء، والعظمةِ والكبرياء، والعزِّ الَّذِي لا يُرام، الواحد الأحدِ، الرب الصمدِ، الملِكِ الَّذِي لا يحتاجُ إلى أحَد، العليِّ عن مُداناةِ الأوهام، الجليل العظيم الَّذِي لا تدركُه العقولُ والأفْهامُ، الغنيِّ بذاتِه عن جميعِ مخلوقاتِه، فكلُّ مَنْ سواه مفتقرٌ إليه على الدَّوامَ، وَفَّقَ مَنْ شاء فأمَنَ به واستقام ثم وَجَدَ لذة مناجاةِ مولاهُ فَهَجَر لذيذَ المنام، وصَحِب رُفقةً تتجافى جنوبُهم عن المضَاجع رغبةً في المقام، فَلَوْ رأيتَهم وَقَدْ سارتْ قوافلُهم في حَنْدسِ الظَّلام، فواحدٌ يسْأَلُ العفَو عن زَلَّته، وآخَرُ يشكو ما يجدُ من لَوْعَتِهِ، وآخَرُ شَغله ذِكْرُه عن مسألتِه، فسبحانَ من أيْقَظَهُمْ والناسُ نيام، وتبارك الَّذِي غَفَرَ وعفَا، وستَر وكَفَى، وأسْبَل على الكافةِ جميعَ الإِنعام، أحمده على نَعمِهِ الجِسام، وأشكرهُ وأسألُه حفظَ نعمةِ الإِسلامِ، وأشْهَدُ أن لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لاَ شريكَ لَهُ عَزَّ منْ اعتز به فلا يُضَام، وَذلَّ مَنْ تكبَّر عن طاعتِهِ ولَقِي الاثام، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي بَيَّنَ الحلالَ والحرام، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ الصدِّيق الَّذِي هو في الْغَارِ خيرُ رفيق، وعلى عمَر بنِ الخطَّاب الَّذِي وُفِّقَ للصواب، وعلى عثمان مصابِر الْبَلا ومن نال الشهادة العظمى مِنْ أيْدِي العدا، وعلى ابنِ عمَّه عليٍّ بن أبي طالب وعلى جميعِ الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ مَا غابَ في الأفقِ غَارِب، وسلَّم تسليماً. إخواني: لَقَدْ نَزَل بكم عشرُ رمضانَ الأخيرةُ، فيها الخيراتُ والأجورُ الكثيرة، فيها الفضائلُ المشهورةُ والخصائصُ المذكورةُ. فمنْ خصائِصها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ بالعملِ فيها أكثرَ مِن غيرها، ففي صحيح مسلم عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتهدُ في غيره. وفي الصحيحين عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا دخلَ العَشرُ شَدَّ مِئزره وأحيا ليلَه وأيقظ أهلَه. وفي المسند عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَخْلِطُ العِشْرين بصلاةٍ ونومٍ فإذا كان العشرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ. ففي هذه الأحاديث دليلٌ على فضيلةِ هذه العشرِ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ فيها أكثر مما يجتهدُ في غيرِهِا وهذا شاملٌ للاجتهادِ في جميع أنواع العبادةِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها؛ ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يَشدُّ مئزرَه يعْني يعتزلُ نساءَه ليتفَرغَ للصلاةِ والذكرِ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُحْيي ليلَه بالقيامِ والقراءةِ والذكرِ بقلبه ولسانِه وجوارِحِه لِشَرفِ هذه الليالِي وطلباً لليلةِ الْقَدْرِ التي مَنْ قامها إيمانَاً واحتساباً غَفَرَ اللهُ له ما تقدمَ من ذنبه. وظاهِرُ هذا الحديثِ أنَّه صلى الله عليه وسلّم يُحْيِي الليلَ كلَّه في عبادةِ ربِّه مِنَ الذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والاستعدادِ لذلِكَ والسحورِ وغيرها، وبهذا يحْصُلُ الجمْعُ بَيْنَه وبينَ مَا في صحيح مسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعْلَمُهُ صلى الله عليه وسلّم قَامَ ليلةً حتى الصباحِ، لأنَّ إحياءَ الليل الثَّابتَ في العشرِ يكونُ بالقيامِ وغيرِه مِنْ أنْواعِ العبادةِ والَّذِي نَفَتْه إحياءُ الليلِ بالقيامِ فَقَطْ. والله أَعلم. وممَّا يدُلُّ على فَضيلةِ العشرِ من هذه الأحاديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُوقِظُ أهلَه فيها للصلاةِ والذكرِ حِرْصاً على اغتنام هذه الليالِي المباركةِ بِما هي جديرةٌ به من العبادةِ فإنَّها فرصةُ الْعُمرِ وغنيمةُ لمنْ وفَّقه الله عزَّ وجلَّ، فلا ينبغِي للمؤمن العاقلِ أنْ يُفَوِّت هذه الفرصةَ الثمينةَ على نفسِه وأهلِه فما هي إلاَّ ليَالٍ معدودةٌ ربَّمَا يدركُ الإِنسانُ فيها نفحةً من نَفَحَاتِ المَوْلَى فتكونُ سعادةً له في الدنيا والآخرةِ. وإنه لمِنَ الحرمانِ العظيمِ والخسارةِ الفادحةِ أنْ تَرى كثيراً مِنَ المسلمينَ يُمْضُونَ هذه الأوقاتَ الثمينة فيما لا ينفعُهم، يَسْهَرُونَ مُعْظَمَ الليلِ في اللَّهوِ الباطلِ، فإذا جاء وقتُ القيام نامُوا عنه وفوَّتُوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعَلَّهُمْ لا يَدركونَه بعد عامِهم هَذَا أبَداً، وهذا من تلاعُبِ الشيطانِ بِهم ومَكْرهِ بهم وصَدِّهِ إياهُم عن سبيلِ الله وإغْوائِهِ لهم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الحجر: 42]. والعاقلُ لا يتخذُ الشيطانَ ولِيّاً من دَونِ الله مع عِلْمِهِ بَعَدَاوَتِهِ لَهُ فإنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ للعقل والإِيمانِ. قَالَ الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـالِمِينَ بَدَلاً } [الكهف: 50]، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَـنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ } [فاطر: 6]. ومن خصائص هذه العشر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يعْتَكِفُ فيهَا، والاعتكافُ: لُزُومُ المسجِد للتَّفَرُّغِ لطاعةِ الله عزَّ وجلَّ وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلّم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } [البقرة: 187]. وقد اعتكفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واعتَكَفَ أصحابُه معه وبعْدَه، فَعَنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اعتَكَفَ العشرَ الأوَّلَ من رمضانَ ثم اعتكف العشر الأوسْط ثم قال: «إني اعتكِفُ العشرَ الأوَّل الْتَمِسُ هذه الليلةَ، ثم أعْتكِفُ العشرَ الأوسطَ، ثم أُتِيْتُ فقيل لي: إنها في العشرِ الأواخرِ، فمن أحبَّ منكم أنْ يعتكِفَ فَلْيَعْتكفْ» (الحديث) رواه مسلم. وفي الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعتكفُ العشرَ الأواخرِ مِنْ رمضانَ حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ. ثم اعتكف أزواجُه مِن بعدِه. وفي صحيح البخاريِّ عنها أيضاً قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يعتكفُ في كلِّ رمضانَ عشرةَ أيامٍ. فلما كان العامُ الذي قُبِضَ فيه اعتكفَ عشرين يوماً، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يعتكِف العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ، فلم يعتكفْ عاماً، فلما كان العامُ المقبلُ اعتكفَ عشرينَ، رواه أحمد والترمذي وصححه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا أرادَ أن يعتكفَ صلَّى الفجرَ ثم دخل مَعْتَكَفَهُ فاستأذنَته عائشةُ، فإذِنَ لها، فضربتْ لها خِبَاءً، وسألت حفصة عائشةَ أنْ تستأذن لها، ففعلتْ، فضربتْ خِبَاءً، فلما رأتْ ذلك زينبُ أمَرَتْ بخباءٍ فضُرِبَ لها، فلما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الأخْبِيَة قال: «ما هَذا؟» قالوا: بناءُ عائشةَ وحفصةَ وزينبَ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «آلبِرَّ أردْنَ بِهذا؟ انْزعُوها فلا أراها». فنزعَتْ وترَك الاعتكاف في رمضانَ حتى اعتكف في العشر الأول من شوَالٍ. مِنْ البخَاريِّ ومسلم في رواياتٍ. وقال الإِمامُ أحمدُ بنُ حنبلَ رحمه الله: لا أعْلَمُ عن أحدٍ من العلماءِ خلافاً أنَّ الاعتكافَ مَسْنونٌ. والمقصود بالاعتكاف: انقطاعُ الإِنسانِ عن الناسِ لِيَتَفَرَّغَ لطاعةِ الله في مسجدٍ من مساجِده طلباً لفضْلِهِ وثوابِهِ وإدراكِ ليلة القَدْرِ، ولذلك ينْبغِي للمعتكفِ أنْ يشتغلَ بالذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والعبادةِ، وأن يتَجنَّب ما لا يَعْنِيه من حديثِ الدنيَا ولا بأسَ أنْ يتحدثَ قليلاً بحديثٍ مباحٍ مع أهْلِه أو غيرهم لمصلحةٍ، لحديث صَفِيَّةَ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم معتكفاً فأتَيْتُه أزورُه ليلاً فحدثتُه ثم قمتُ لأنْقَلِبَ (أي لأنصرفَ إلى بيتي) فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم معِي» (الحديث) متفق عليه. ويحرُمُ على المعتكفِ الجِماعُ ومُقَدَّمَاتُه من التقبيلِ واللَّمسِ لشهوةٍ لقولِه تعالى: {وَلاَ تُبَـاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَـاجِدِ } وأمَّا خُروجُه من المسجدِ فإنْ كان بِبَعْض بدنِه فلا بأسَ به لحديث عائشة رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُخرجُ رأسَه مِنَ المسجِدِ وهو معتكفٌ فأغسله وأنا حائض»، رواه البخاري. وفي رواية: «كانت تَرجّل رأس النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وهي حائضٌ وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه»، وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام: الأوَّلُ: الخروجُ لأمرٍ لا بُدَّ منه طبعاً أوْ شرعاً كقضاءِ حاجةِ البولِ والغائِط والوضوءِ الواجبِ والغُسْلِ الواجِب لجنابَةٍ أوْ غيرها والأكلِ والشربِ فهذا جائزٌ إذا لم يُمْكنْ فعْلُهُ في المسجدِ فإنْ أمكنَ فِعُلُه في المسجدِ فلاَ. مثلُ أنْ يكونَ في المسجدِ حَمَّامٌ يمكنُه أنْ يقضيَ حاجتَه فيه وأن يغتسلَ فيه، أوْ يَكونَ له من يأتِيْهِ بالأكِل والشربِ فلا يخرجُ حينئذٍ لعدمِ الحاجة إليه. الثاني: الخروج لأمْر طاعةِ لا تجبُ عليهِ كعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ ونحو ذلك فلايفعله إلاَّ أنْ يشترطَ ذلك في ابتداءِ اعتكافِه مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعودَه أو يخشى من موته فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجَه لِذَلِكَ فلا بأْسَ به. الثالث: الخروجُ لأمْرٍ ينافي الاعتكافَ كالخروج للبيعِ والشراءِ وجماعِ أهْلِهِ ومباشرتِهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرطٍ ولا بغيرِ شرطٍ، لأنه يناقضُ الاعتكافَ وينافي المقصودَ منه. ومن خصائِص هذه العشر أنَّ فيها ليلةَ الْقَدْرِ التي هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ فاعْرفوا رحمكم الله لهذه العشر فَضْلَها ولا تضيِّعُوها، فوَقْتُها ثمينٌ وخيرُها ظاهِرٌ مبينٌ. اللَّهُمَّ وفقْنَا لِمَا فيهِ صلاحُ دينِنا ودنيانَا، وأحْسِنْ عاقَبَتَنا وأكْرِمْ مثَوانا، واغفر لنَا ولوالِدِينَا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ وصَلَّى الله وسلّم على نبيِّنا محمدٍّ وآلِهِ وصحبِه أجمعين. |
||||||||||
09-23-2008, 07:55 AM | #30 | ||||||||||
|
الحمدُ لله عالمِ السِّر والجهر، وقاصِمِ الجبابرةِ بالعزِّ والقهر، مُحْصِي قطراتِ الماءِ وهو يَجْرِي في النَّهْر، وباعثِ ظلامِ الليلِ ينسخُه نورُ الفجر، موِفِّر الثواب للعابدِينَ ومكملِّ الأجْر، العَالمِ بخَائَنَةِ الأعينِ وخافية الصدر، شَمل برزقِه جميعَ خلقِه فلَم يْترُكِ النملَ في الرَّمْلِ ولا الفرخَ في الْوَكر، أغنى وأفْقَرَ وبحِكْمَتِهِ وقوع الغِنَى والفَقر، وفَضَّل بعضَ المخلوقاتِ على بعض حتى أوقاتَ الدَّهر، لَيلةُ القدْر خيرٌ مِنْ ألفِ شهر، أحمدُه حمداً لا مُنتَهى لعَدَدِه، وأشكره شكراً يسْتجلِبُ المزيدَ من مَددِه، وأشهد أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له شهادةَ مخْلِص في مُعْتَقَده، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي نَبع الماءُ منْ بينَ أصابع يدِه صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكرٍ صاحبه في رخائِه وشدائده، وعلى عمرَ بن الخطاب كهْفِ الإِسلامِ وعَضُدِه، وعلى عثمانَ جامِع كتاب الله ومُوحِّدِه، وعلى عليٍّ كافي الحروبِ وشجعَانِها بِمُفْرَدِه، وعلى آلِهِ وأصحابِه المحسنِ كلٌ منهمْ في عملِه ومقصِده، وسلَّم تسليماً. إخواني: في هذِه العشرِ المباركة ليلةُ القَدْرِ الَّتِي شرَّفها الله على غيرها، ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشادَ الله بفضلها في كتابة المبين فقال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَـهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَـاوَتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ } [الدخان: 3- 8]. وصفَها الله سبحانَه بأنها مباركةٌ لكَثْرةِ خيرِها وبَركتِها وفضلها، فمِن بركتها أنَّ هذا القرآنَ المباركَ أُنْزِلَ فيها ووصَفَها سبحانَه بأنه يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم، يعني يفصَل من اللوح المحفوظِ إلى الْكَتَبةِ ما هو كائنٌ مِنْ أمرِ الله سبحانَه في تلك السنةِ من الأرزاقِ والآجالِ والخير والشرِّ وغير ذلك من كلِّ أمْرٍ حكيمٍ من أوامِر الله المُحْكَمَةِ المتْقَنَةِ التي ليس فيها خَلَلٌ ولا نقصٌ ولا سَفَهٌ ولا باطلٌ ذلك تقديرُ العزيز العليم. وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَـمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [القدر: 1- 5]. الْقَدرُ بمعنَى الشرفِ والتعظيم أوْ بمعنى التقديرِ والقضاءِ؛ لأنَّ ليلةَ القدر شريفةٌ عظيمةٌ يقدِّر الله فيها ما يكون في السنةِ ويقضيهِ من أمورِهِ الحكيمةِ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } يعني في الفضل والشرفِ وكثرةِ الثواب والأجر ولذلك كانَ مَنْ قامَهَا إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه. {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} الملائكة عبادٌ من عباد الله قائمون بعبادته ليلاً ونهار {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 19، 20] يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة {وَالرُّوحُ} هو جبريل عليه السلام خصَّه بالذكر لشرفه وفضله. {سَلَامٌ هِىَ} يعني أن ليلة القدر ليلةُ سلامَ للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتقُ فيها من النار، ويَسْلمُ مِنْ عذابِها. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } يعني أن ليلة القدرِ تنتهي بطلوعِ الفجرِ لانتهاءِ عملِ الليلِ به، وفي هذه السورةِ الكريمةِ فضائلُ متعددةٌ لليلةِ القدرِ: الفضيلةُ الأولى: أن الله أنزلَ فيها القرآنَ الَّذِي بهِ هدايةُ البشرِ وسعادتُهم في الدُّنَيا والاخرِهِ. الفضيلةُ الثانيةُ: ما يدُل عليه الاستفهامُ من التفخيم والتعظيم في قولِه: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ }. الفضيلةُ الثالثةُ: أنَّها خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ. الفضيلةُ الرابعةُ: أنَّ الملائكةَ تتنزلُ فيها وهُمْ لاينزلونَ إلاَّ بالخيرِ والبركةِ والرحمةِ. الفضيلةُ الخامسةُ: أنها سَلامٌ لكثرةِ السلامةِ فيها من العقابِ والعذابِ بما يقوم به العبدُ من طاعةِ الله عزَّ وجلَّ. الفضيلة السادسةُ: أنَّ الله أنزلَ في فضِلِها سورةٌ كاملةً تُتْلَى إلى يومِ القيامةِ. ومن فضائل ليلةِ القدرِ ما ثبتَ في الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «من قَامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه»، فقوله إيماناً واحتساباً يعني إيماناً بالله وبما أعدَّ اللهُ من الثوابِ للقائمينَ فيهَا واحتساباً للأجرِ وطلب الثواب. وهذا حاصلٌ لمنْ علِمْ بها ومَنْ لم يعلَمْ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لَمْ يَشْترطِ العلمَ بهَا في حصولِ هذا الأجر. وليلةُ القدرِ في رمضانَ، لأنَّ الله أنزلَ القرآنَ فيهَا وقد أخْبَرَ أنَّ إنزالَه في شهرِ رمضانَ، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر:1]، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [البقرة:185]. فبهذا تَعَيَّن أنْ تكونَ ليلةُ القدرِ في رمضانَ، وهي موجودةٌ في الأمَم وفي هذه الأمةِ إلى يومِ القيامةِ لما روى الإِمامُ أحْمَدُ والنسائيُّ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال: «يا رسولَ الله أخْبرنِي عن ليلةِ القَدْرِ أهِي في رمضانَ أمْ في غيرهِ؟ قال: بلْ هِي في رمضانَ. قال: تكونُ مع الأنبياءِ ما كانُوا فإذا قُبِضُوا رُفِعَتْ أمْ هي إلى يومِ القيامةِ؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة»[52] (الحديث). لَكِنْ فضلُها وأجْرُها يختَصُّ والله أعَلْمُ بهذه الأمةِ كما اختصتْ هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل ولله الحمدِ. وليلةُ القَدْر في العشر الأواخر من رمضانَ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «تَحَرِّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخر من رمضانَ»، متفقٌ عليه. وهي في الأوْتار أقْرب من الأشفاعِ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «تحروا ليلةَ القدرِ في الْوِترِ من العشرِ الأواخر من رمضان»، رواه البخاري. وهي في السَّبْعِ الأواخرِ أقْرَبٌ، لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّ رجالاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام في السبعِ الأواخر فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أرَى رُؤياكُمْ قد تواطأت (يعني اتفقت) في السبعِ الأواخرِ فمن كانَ مُتَحرِّيَها فَلْيتحَرَّها في السبعِ الأواخرِ»، متفق عليه. ولمسلم عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «التمِسُوَها في العشر الأواخر (يعني ليلةَ القدْرِ) فإن ضعف أحدُكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبعِ البواقِي». وأقربُ أوْتارِ السبعِ الأواخرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ لحديثِ أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «والله لأعلم أيُّ ليلةٍ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقيامِها هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ»، رواه مسلم. ولا تَخْتَصُّ ليلةُ القدرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ بل تَنتَقِّلُ فتكونُ في عامٍ ليلةَ سبع وعشرينَ مثلاً وفي عام آخرَ ليلة خمسٍ وعشرينَ تبعاً لمشيئةِ الله وحكمتِه، ويدُلُّ على ذلك قولُه صلى الله عليه وسلّم: «الُتمِسُوها في تاسعةٍ تبقى في سابعةٍ تبقَى في خامسةٍ تبقَى»، رواه البخاري. قال في فتح الباري: أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشرِ الأخيرِ وأنها تَنْتَقِلُ. اهـ. وقد أخُفَى الله سبحَانه عِلْمَها على العبادِ رحمةً بهم ليَكْثُر عملُهم في طلبها في تلك الليالِي الفاضلةِ بالصلاةِ والذكرِ والدعاءِ فيزدادُوا قربةً من الله وثواباً، وأخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبينَ بذلك مَنْ كانَ جادَّاً في طلبها حريصاً عليها مِمَّنْ كانَ كسلانَ متهاوناً، فإنَّ مَنْ حرصَ على شيءٍ جدَّ في طلبِه وهانَ عليه التعبُ في سبيلِ الوصولِ إليهِ والظَفر به، وربَّما يظهرُ اللهُ عِلْمَهَا لبعضِ الْعبَادِ بأماراتٍ وعلاماتٍ يرَاهَا كما رأى النَبيُّ صلى الله عليه وسلّم علامتَها أنه يسجُدُ في صبيحتِها في ماءٍ وطينٍ فنزل المطرُ في تلك الليلةِ فسجد في صلاةِ الصبحِ في ماءٍ وطينٍ. إخواني: ليلةُ القدرِ يُفْتح فيها الْبَاب، ويقرَّبُ فيها الأحْبَابُ، ويُسْمَع الخطابُ، ويردُّ الجواب، ويُكْتَبُ للعاملينَ فيها عظيمُ الأجرِ، ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شَهْر، فاجتهدُوا رحمكم الله في طلبِها، فهذَا أوانُ الطَّلب، واحذَرَوا من الغفلةِ ففي الغفلة العَطَب. تَوَلَّى العُمُر في سهو وفي لَهْوٍ وفي خُسْر فيا ضيعةَ ما أَنْفَقْـ ـتُ في الأيام من عُمْري وما لِي في الَّذِي ضيَّعْـ ـتُ من عمريَ من عُذْرِ فما أغْفَلَنَا عن واجبـ ـاتِ الحمدِ والشكرِ أمَا قد خَصَّنا اللهُ بشهرٍ أيِّما شهرِ بشهرٍ أنْزَلَ الرحمـ ـنُ فيهِ أشرفَ الذِّكْرِ وهل يُشبِهُه شهرٌ وفيه ليلةُ القدرِ فكمْ مِنْ خَبرٍ صَحَّ بما فِيها من الخير رَوَيْنَا عن ثقاتٍ أنَّهـ ـا تُطْلَبُ في الوِتر فطُوبى لأمْرىءٍ يطلُـ ـبُهَا في هِذِه العَشرِ فَفِيْهَا تنزلُ الأملاكُ بالأنوار والبرِ وقد قَالَ سلامٌ هيَ حتى مَطْلعِ الفجرِ ألاَ فادَّخِروها إنِّـ ـها من أنْفَسِ الذُّخر فكمْ مِنْ مُعْتَقٍ فيها من النارِ ولا يَدْرِي اللَّهُمَّ اجْعلْنَا ممن صامَ الشهر، وأدركَ ليلةَ القدرِ، وفاز بالثوابِ الجزيلِ الأجرِ. اللَّهُمَّ اجْعلْنَا من السابقينَ إلى الخيراتِ، الهاربينَ عن المنكَرات، الآمنينَ في الغرفات، مع الَّذِينَ أنعمتَ عليهم وَوَقَيْتَهُمْ السيئاتِ، اللَّهُمَّ أعِذْنا من مُضلاَّتِ الفتنِ، وجنبنا الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بطَن. اللَّهُمَّ ارزُقْنَا شكرَ نعمتِك وحسنَ عبادتكَ، واجْعلْنَا من أهل طاعتِك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنةً وفي الاخرة حسنةً وقنَا عذَابَ النار، واغفر لنَا ولوالِدِينا ولِجميعِ المسلمينَ برحمتك يا أرحمَ الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين. -------------------------------------------------------------------------------- [52] رواه أيضا الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ونقل عن الذهبي أنه أقره. والله أعلم. |
||||||||||
|
|